اللاأنسنة (التجريد من الإنسانيّة) dehumanization ظاهرة إصطلح على تسميتها هكذا في النظريات السياسيّة وعلم النفس السياسي والاجتماعي الحديث. ومنها النوع الإيجابي الذي يهدف إلى الثناء على الآخر ومنها السلبي الذي يهدف إلى التقليل من شأن الخصم وإلحاق الضرر النفسي به، وتحريض المؤيدين على الاعتداء عليه، وذلك بعد عزله خارج المجتمع الإنساني وتبرير العنف ضده من قبل مجتمع الموالين المشكلين لذلك المجتمع أو الفئة. وتأخذ الظاهرة ثلاثة أشكال يستخدمها الأدباء والسياسيون والعامّة من أجل رفع شأن الآخر أو التقليل من شأنه والإعتداء عليه وتوليد العنف ضده.
أولا: التحوين animalization ( إلصاق صفات حيوانية بالآخر أو تشبيهه بالحيوانات باستعمال اللغة المجازية فنحن نمدح الآخر عندما نقول فلان أسد أو نمر أو صقر بينما نهاجم الآخر عندما نصفه بأنه كلب أو أفعى أو حشرة.
ثانيا: التشييء objectification ، وهو وصف الآخر بالأشياء غيرالحيّة أو تشبيهه بالجمادات. يستعمل هذا الأسلوب للمدح والذم أيضا. فعندما نقول الممثل نجم ساطع في سماء الفن، فنحن نمدحه ونعظم شأنه، بينما وصف الرسول للأمة في آخر الزمان بأنها غثاء كغثاء السيل، لم يقصد منه الثناء على حالها وما تؤول إليه.
ثالثا: الميكنيّة أو الأدواتيّة mechanization وهو استغلال الآخر واستعماله كأداة لتنفيذ المآرب الذاتية. وهذا النوع لا يأتي في باب الثناء والإطراء بل الانتهازية والمكيافلية والوصولية واستغلال الآخرين لمصلحة الجهة المعنيّة.
وقد بيّن الباحثان آدم وياتس وجوليانا شرويدر (2014) ان هذه الصنوف الثلاثة تسمى باللاأنسنة الخشنة rough dehumanization وبيّنا أن هناك نوع آخر هو اللاأنسنة الناعمة soft dehumanization . وقدّما أمثلة على ذلك من مثل تهميش الآخرين وعدم الإكتراث بهم والتقليل من شأنهم وعدم الإلتفات إلى مشاعرهم.
إن ظاهرة اللاأنسنة تنمو وتتطور في أجواء التوتر الناتجة عن الصراعات السياسيّة التي تحوّل الأطراف المتنافسة إلى أعداء، وهو الموقف الذي يقود طائفة دينية أو حزبا أو جماعة سياسية أو اجتماعية إلى تشويه سمعة الجهة المنافسة بشتّى طرائق اللاأنسنة من أجل إضفاء الشرعيّة على استخدامها للعنف والعدوان ضدّها، لقد تطورت دراسة هذه الظاهرة وتحليلها للنظريّات السياسيّة والاجتماعيّة النفسيّة الحديثة في الخمسين سنة الماضية.
ولم يتعرض شخص لمثل هذه الظاهرة مثلما تعرض لها الرسول الكريم في كتابات الغربيين في العصور الوسطى وحتى اليوم مع فترة انفراج قصيرة في القرن التاسع عشر. ولم يتعرض كتاب للقدح والتشكيك به كما تعرض له القرآن الكريم. لقد نشرت حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأباطيل وألصقت به أوصاف من مثل السحر والشعوذة والدجل والهرطقة وأنه تعلم القرآن من كاهن مسيحي وغيرها من أدوات اللاأنسنة الخشنة والناعمة ، مثلهم في ذلك مثل كفار قريش ويهود الجزيرة. وقد رد القرآن الكريم على بعضها. قال تعالى: وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (سورة ص ، 4)، وقوله تعالى:” وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (النحل ، 103). ورد على المكذبين ووالمشككين في سورة النجم (3-5) بقوله تعالى: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.”
وفي الكتابات الغر بية تواصل الهجوم على شخص النبي الكريم في الكتابات الدينية والسياسية والأدبية وترجمات معاني القرآن الكريم مثل الترجمة إلى اللاتينية التي نفذها فريق بقيادة بطرس الناسك بتكليف من المجمع البابوي في القرن الحادي عشر وترجمة جورج سيل إلى اللغة الإنجليزية سنة 1734. وجاء الهجوم على شخص الرسول الكريم في مقدمتي الترجمتين. وظهرت مثل هذه الإشارات الهجومية على النبي الكريم في كتابات مهمة مثل الكوميديا الإلهية لدانتيDante’s Divine Comedy والقصيدة الملحمية الفرنسية “أنشودة الأبطال”Chansons de Geste . ولفقت الأساطير حول الرسول الكريم ومنها أنه كان يدرب حمامة على نقر القمح من أذنه ويدعي أن تلك الحمامة هي جبريل الذي يملي عليه القرآن ووردت هذه الأسطورة في مسرحية شكسبير هنري السادس، الجزء الأول 1Henry VI.
ولكن لماذا كل هذا التشويه واستعمال كافة ضروب اللاأنسنة بحق رسول الله والإساءة للقرآن الكريم. لقد كان ذلك بسبب التحدي الديني والسياسي والفكري الذي فرضه الإسلام في العصور الوسطي وما قبلها بانتشاره السريع وهزيمته لإمبراطوريات العصر آنذاك البيزنطية والفارسية ووصوله إلى شبه جزية آيبيريا وبناء حضارتين متقدمتين ومتنافستين في الأندلس وبغداد في زمن قياسي. والوصول إلى تخوم فرنسا في معركة بلاط الشهداء عام 732 م في وقت كانت أوروبا تغرق في ظلام العصور الوسطى.
إن الخطاب الأوروبي الحالي وحملة اللاأنسة ضد النبي صلى الله عليه وسلّم وموجة الرسوم المسيئة للرسول يأتي ضمن نهوض حركة اليمين المتطرف التي تنامت لدى شريحة غير تمثيلية من الغربيين في العقد الأخير بشكل خاص والتي تستدر عطف العامّة مستفزة إرثا من الكراهية للإسلام لم يجف بعد رغم كل التودد الرسمي للغرب في القرنين الماضيين.
واللافت للنظر الخطاب المشحون باللاأنسنة والتطرف الذي ألقاه الرئيس الفرنسي في تأبين المعلم القتيل إثرموجة الكراهية التي استنهضها في خطاباته. لقد أشعل الرئيس الفرنسي روح الكراهية النائمة والتي أنتجت هذا الرد المتطرف من الطالب المسلم. ويمعن في نهجه وعدم إعتذاره للمسلمين ويحاجج المسلمين على أنهم منافقون وكاذبون حيث من الأولى ، كما قال، أن يحتجوا على عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة لأنهما أساءا للرسول. وهو يحاول بذلك إشعال فتيل الفتنة بين طوائف المسلمين ليصدّر كراهيته للإسلام ليضرب بها المسلمون بعضهم بعضا.
ومن الجدير ذكره أننا ينبغي أن نتذكر أن ماكرون لا يمثل كل الفرنسيين ولا الغربيين، فمن فرنسا خرج علماء وكتاب وفلاسفة كبار أنصفوا الإسلام وفهموه وكتبوا عنه واعتنق قسم منهم الإسلام من أمثال جارودي وفكتورهوجو وموريس بكاي وغيرهم كثير. إن الإجراءات الشعبية بالمقاطعة والدعاوى القانونية هي إجراءات سلمية مباركة، ولكنني أرى ضرورة مساهمة العلماء والمفكرين والباحثين الجامعيين في الرد على هذا الخطاب المتطرف والذي ينهض بالكراهية والحقد.