لا يختلف إثنان أن لجائحة كورونا تأثيرات سلبية شملت نواحي الحياة كافة وتداعياتها على البحث العلمي لا تخطأها عين بصيرة. وقد طالت هذه الجائحة كل مفاصل البحث العلمي لا سيما الباحثين والمنشأت البحثية وطلبة الدراسات العليا وميزانيات البحوث العلمية والتعاون البحثي العالمي وتشابك العلماء والاستراتيجيات البحثية وحتى مصداقية البحث العلمي والإبداع والابتكار. وقد وضعت جائحة كورونا الباحثين كافة البشر تحت أمر واقع أولوية هي للبقاء على قيد الحياة وكل المعايير بما فيها البحث العلمي يأتي لاحقاً.
حرمت جائحة كورونا أعداد كبيرة من الباحثين من العمل من مختبراتهم وفرضت عليهم العمل عن بعد وقيدت سفرهم وحرمتهم من الحضور الشخصي للمؤتمرات وأجبرتهم على اللجوء للإجتماعات الإلكترونية عبر شاشات افتراضية. فقد اضطر ما معدله 29٪ من الباحثين الأمريكيين العمل من بيوتهم وكان ذلك أكثر وضوحاً بين العاملين في المختبرات الجافة (Dry Labs) مقارنة مع زملائهم الباحثين في المختبرات الرطبة (Wet Labs). وكما حرمت الجائحة الكثير من الباحثين في المجالات الأدبية والثقافية من نشر إنتاجهم العلمي عبر المؤسسات والمراكز الثقافية وغابت حفلات لإشهار التي كان يقوم بها المبدعون من الباحثين والكتاب والشعراء من خلال هذه المنابر. كذلك منعت كورونا كثيراً من الباحثين من عرض نتائج بحوثهم وإلقاء المحاضرات العامة وقيدت سفرهم لحضور المؤتمرات الدولية والإقليمية وحتى المحلية أحياناً. وتسببت جائحة كورونا في فقدان عدد كبير من الباحثين لأعمالهم لا سيما العاملون منهم في المؤسسات البحثية الخاصة والربحية وكان ذلك واضحاً في الدول ذات المداخيل المتوسطة والمتدنية. وكما أظهرت بعض الدراسات المشتركة في كل من اليابان وكوريا الجنوبية أن هذا التأثير أشد وطأة على الباحثات من زملائهن الباحثين الذكور. وبسبب ذلك خلفت جائحة كورونا كثيراً من الباحثين في حال من التوتر والاكتئاب وأقدم بعضهم على الانتحار. وتجنبت 600 مؤسسة بحثية مشهورة في الولايا المتحدة الأمريكية توظيف باحثين جدد لأسباب مالية ولامس ذلك أعرق الجامعات العالمية مثل هارفرد وكامبرج وسيانفورد على سبيل المثال لا الحصر. وقد انخض عدد الباحثين بالولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 2020م (عام كورونا) بمقدار 337 ألف باحث عن العام الذي سبقه. كذلك تأثر وبشكل كبير طلاب الدراسات العليا للكتوراه وما بعد الدكتوراه حيث توقفت بحوثهم جزئياً أو كلياً وحرموا من حضور المؤتمرات العلمية التي تعطلت بسبب كورونا وخسروا فرصة تقديم أنفسهم للدوائر العلمية البحثية.
وقد أثرت جائحة كورونا على المنشاءات والمؤسسات البحثية وأدت إلى إغلاق معظم الجامعات ومراكز البحوث والمختبرات البحثية جزئياً أو كلياً لتجنب المخطار وللمحافظة على سلامة الباحثين وخلت المختبرات البحثية من الباحثين كما خلت دور العبادة من المصلين. وكنتيجة لذلك طلبت بعض المنشاءات البحثية من العاملين بها العمل عن بعد وحرمت من زيارة المهتمين بالبحث العلمي لها. وكما كانت المؤتمرات العلمية الشخصية من أبرز ضحايا جائحة كورونا وأبرز المتضررين من ذلك هم الباحثون الجدد ممن ما زالوا في بداية حياتهم المهنبة حيث خسر معظمهم فرصة عرض بحوثهم والتشبيك مع باحثين آخرين. وأدت جائحة كورونالإلغاء أو تأجيل كثير من المؤتمرات العلمية في اللحظات الأخيرة السابقة لموعد انعقادها وأستبدل بعضها جزئياً بمؤتمرات عقدت عبر الأنترنت والشاشات الإفتراضية. وكما تأجلت المؤتمرات السنوية للجمعيات البحثية الإقليمية والعالمية وألغيت غالبية الفعاليات العلمية التي تم جدولتها لتحدث خلال أشهر 2020م. وكما انشغلت كثير من المستشفيات البحثية الجامعية باستقبال مرضى كوفيد-19 على حساب إجراء البحوث العلمية.
وكما أثرت كورونا وبشكل واضح على الباحثين الزائرين وطلبة الدراسات العليا وظهر ذلك جلياً بالدولة الألمانية حيث انخفض استقطاب عدد الباحثين الزائرين وطلبة الدراسات العليا لألمانيا بعد تفشي فيروس كوفيد -19 من جميع أنحاء العالم لا سيما من دولة الهند.
كذلك خلفت جائحة كورونا آثار مدمرة على الميزانيات المخصصة للبحث العلمي في الجامعات العربية على وجه الخصوص والجامعات االعالمية على وجه العموم. ونتيجة لذلك توقفت أو تباطئت بشكل كبير مشاريع البحوث العلمية الدولية التشارركية لا سيما في القضايا الصحية الأخرى مثل برامج البحوث الدولية لمكافحة مرض السل والايدز في كينيا حيث انشغلت هذ المؤسسات وركزتجهودها للتصدي لمكافحة كورونا. وكما ذهبت على سبيل المثال ثلث ميزانية المعهد الوطني الصحي (NIH) في الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة جائحة كورونا ضمن العمل الإفتراضي بعيداً عن المختبرات البحثية. وحدث ما يشبه ذلك أو أكثر في كثير من بلدان العالم المتقدمة التي لها مشاريع بحثية استراتيجية واسعة النطاق. وقد كشفت جائحة كورونا عن غياب البحوث الحقيقية المرتبطة بالقضايا الصحية والبيئية.
ولم تكن آثار جائحة كورونا شراً خالصاً وكارثية بالتمام على البحث العلمي. فلا شك أنها ساعدت بوضع بعض النقاط على الحروف ووضعت الإصبع على الجرح لذوي الألباب من الباحثين والقائمين على التعليم العالي وقضايا البحث العلمي. فقد كشفت كورونا أهمية البحث العلمي كوسيلة للتقدم ولكسب احترام الأمم ولمواجهة كافة والأزمات والكوارث المحتملة في المستقبل وساهمت جائحة كورونا بجعل المبدعين محليين بقدر ما هم عالميين. كذلك أدرك الباحثون أهمية البحث العلمي العالمي فعطسة في إحدى القارات تؤثر في القارات الأخرى واتضح أن قضايا البحث العلمي هي عالمية بامتياز والتعامل معها يجب أن يكون عالمياً والحلول يجب أن تكون دولية منسقة. وكما أظهرت الجائحة أهمية التشبيك العلمي الحقيقي على قاعدة أنه لا يمكن إفراغ البحر بمعلقة وأنه من رحم الصعوبات تبرز الفرص وأن مجابهة التحديات يتم بطرق بحثية خلاقة. وكما لا شك به أن كورونا أتاحت للباحثين وطلبة الدراسات العليا فرصة قضاء وقت أطول في منازلهم ومع اسرهم ولكتابة أورقهم البحثية العالمية والأكاديمية والتعليمية. فقد أظهرت إحدى بعض الدراسات في اليابان أن 51٪ الباحثين زاد انتاجهم العلمي وكتبوا أوراق علمية أكثر بالمقارنة مع انتاجهم المعرفي قبل جائحة كورونا.
وكما تجاوز علماء بعض الدول التي تستثمر جدياً واستراتيجياً بالبحث العلمي الخلاف السياسي بين بلدانهم مثل ما هو الحال بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية واستمروا بالتعاون في ظل جائحة كورونا لا سيما في المجالات الطبية والصيدلانية. وعلى الرغم من العداء المتصاعد والمستعر بين السلطات الإيرانية والدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية, إلا أن العلماء الإيرانيون تمكنوا من زيادة إنتاجهم من الأوراق العلمية من خلال التعاون مع باحثين من أميركا وكندا وإيطاليا وبريطانيا. وحسب اللجنة الوطنية الإيرانية لأخلاقيات البحث العلمي فقد تم إجازة 2600 مشروع بحث منذ بدء جائحة كورونا وحتى تشرين أول لعام 2021مم.
وأبرزت الجائحة بشكل لا يحتمل اللبس غياب الاستراتيجيات البحثية في الجامعات العربية للتعاطي مع الكوارث ولأزمات والعجز عن تحويلها لفرص للإبداع. وبينما انتظمت الجهود الفردية والجماعية داخل العديد من أقطار العالم للتصدي لجائحة كورونا, أظهرت جامعاتنا العربية عجز واضح عن المشاركة بالجهود العالمية العلمية. وأدت الإجراءات التي اتخذت في ظل جائحة كورونا في معظم البلدان العربية إلى تدن شديد في دعم برامج الدراسات العليا وهي بالأساس برامج بحثية. وكما تراجعت وبشكل ملحوظ الفعاليات المتعلقة بالبحث العلمي وألغيت مختلف الفعاليات الثقافية والعلمية منذ تفشي فيروس كورونا. ولم تكن هذه النتجة مفاجئة للمطلعين على حال البحث العلمي في بلداننا والتي لم تنجح قبل كورونا بعقود بإحداث أثر كبير من خلال استثمار البحث العلمي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية واستمر فشلها خلال جائحة كورونا بسبب غياب الرؤيا الاستراتيجية. فبينما توقفت أو تباطئت مسيرة البحوث العلمية الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع في جامعاتنا, انهمكت المؤسسات الأكاديمية والبحثية في الدول المتقدمة بالبحث العلمي والاكتشافات. بل انشغلت مؤسساتنا بأديولوجيات وخزعبلات فكرية تقوم على تغليب المؤامرة والفكر الطائفي الأعمى الذي لا علاقة له بالبحث العلميوبمحفز للباحثين لا يتجاوز غايات الترقية الأكاديمية واستمرارغياب الخطط الاستراتيجية للتقدم التكنولوجي.
وحال البحث العلمي في بلداننا العربية لا يسر صديق ولا يغيض عدو. فمردودات البحث العلمي عندنا في الأردن قبل كورنا وبعدها هزيلة للغاية فيما تحتضن الجامعات الأردنية 30 ألف طالب دراسات عليا منهم 10 آلاف طالب في برامج الدراسات العليا العلمية. إن حال جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية لا يتجاوزالدعاء لعلماء الدول المتقدمة لحل معضلة كورونا لكي يعود باحثونا إلى مختباراتهم لمزاولة بحوث هزيلة بعيدة عن الإبداع والإبتكار. ولا حرج عندنا في أن تتذيل جامعاتنا قائمة أفضل الجامعات في العالم وأن تتضاعف الفجوة العلمية بين البلدان العربية والدول المتقدمة كل 18 شهراً فيما كانت لكل 6 سنوات في مطلع ثمانيات القرن الماضي.