لا أجمل من لؤلؤات الندى نشاهدها في الصباح الباكر مع اللحظات الآولى لشروق الشمس, وفي الميثولوجيا اليونانية, قطرات الندى هي دموع الرب. تسعدنا قطرات الندى صباحاً وهي تغطي العشب والأوراق بقطرات فضية شفافة نقية كالألماس معلقة بقوة بأنصال الأعشاب وبتلات الأزهار تخشى شعاع الشمس حيث يكفي الواحد منها لتطايرها.
يحتاج الندى لسماء ليلية صافية، وإشعاع قوي وانخفاض في درجة الحرارة، ورياح هادئة ورطوبة مرتفعة. وتتشكل قطرات الندى وفقًا لقواعد بسيطة تؤدي إلى ترتيب مذهل يتولد عنه قطيرات صغيرة تبدء بحجم صغير للغاية لا تلبث أن تتعاظم من خلال ظاهرة الاندماج. ويتكون الندى نتيجة لتحول بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي إلى قطرات سائلة تجلب معها النضارة إلى الصباح الباكر وتهدي النباتات الرطوبة خلال فترات الجفاف. وتبقى قطرات الندى ما بقي الليل فقط، وتتلاشى مع أنفاس الصباح الأولى. ولا بد وأن أحدكم سمع بالأميرة الطولونية “قطر الندى” التي تسبب زواجها في إفلاس خزائن مصر في عهد الدولة الطولانية الناتجة عن انشقاق والى العباسيين في القاهرة عن بغداد مركز خلافة العباسيين.
وقد أصاب الكيميائيون القدماء عندما جعلوا الندى أحد المكونات الرئيسية لحجر الفلسفة. ويعني الندى الجمال في معظم التقاليد الشعبية, ويعتقد في أوكرانيا على سبيل المثال أن أكثر أمر ممكن أن يعزز جمال المرأة هو أن تنقع نفسها في ماء الندى وهذا ما تبحث عنه العروس عند زفافها. ويشرب بعض الشعوب الندى النقي المجموع من الأزهار من أجل العمل العظيم “العلاقة الحميمة” عسى أن يعزز الفحولة مع أن ندى العطار لا ييحي ما أفسده الدهر. واستخدمت بعض المجتمعات الندى عبر التاريخ علاجاً لبعض الأمراض الجلدية لا سيما البهاق. ودست فتيات الإغريق ندى الأزهار في طعام من تعشق على أمل سحر المعشوق وايقاعه في شبق الحب وحبل الهوى.
يؤشر الندى للهدوء ويرتبط بالزوال الهاديء بلا ضوضاء وهو مصدر إلهام للفنانيين والشعراء والأدباء. وذكر الندى بالعديد من قصائد محمود درويش كما في قصيدته “احمد العربي”:
كان فيها أبي يربيي الحجارا من قديم.. و يخلق الأشجار جلده يندف الندى يده تورق الشجر
ويقول أيضاً في قصيدته “أيها المارون بين الكلمات العابرة”:
ولنا قمح نربيه و نسقيه ندى أجسادنا ولنا ما ليس يرضيكم هنا حجر.. أو خجل
وقد ازدادت أهمية الندي في السنوات الماضية كمصدر للمياه النقية وتزداد أهميته في الأماكن التي تندر بها المياه لا سيما الصحاري والمناطق الحارة. واستحدثت في العصور الوسطى برك الندى الصغيرة على شكل أكواب في المناطق الجافة من إنجلترا حيث كان يتم إفراغها في المساء ليجدونها ممتلئة في الصباح التالي بماء الندى. وتزرع في جزر الكناري، كروم العنب في وسط حفرة مخروطية في الرماد البركاني حيث يحصل النبات على ما يلزمه من الرطوبة من الندى المتجمع بهذه الحفرة و بما لا يزيد عن دلو من ماء الندى ولكنه كاف لنمو النبات. ويعتمد سكان معظم العشوائيات في المكسيك والشيلي وبعض الدول الإفريقية على جمع الندى كمصدر أساسي لمياه الشرب. ويجمع الندى في بعض مناطق الهند لغرض الزراعة وللشرب في الهند وانتاج أثمن الورود في بعض البلدان.
وقد استخدم الإنسان المكثفات لتحويل بخار الماء في الغلاف الجوي إلى ندى منذ العصور القديمة. ونسج حول ذلك كثير من الأساطير. وقد وجد في جزيرة القرم أنابيب طينية تعود لقرون سابقة كانت تستخدم لتكثيف الندى. وجمع الندى في بلدة فيودوسيا الكرواتية يومياً على مدار سنوات بمعدل 360 لترًا من الندى لتعزيز مياه الشرب. وكانت هذه الأنابيب الطينية خفيفة لا تلبث أن تبرد بسرعة أثناء الليل. ويستبشر أهالي الشام بالندى بكميات كبيرة ويقولون “ندى غرق” ويصفون الصباح الخالي من الندى ب “السموم وليالي الشرد”. ويعمل الندى في بلادنا على إنضاج بعض الفواكه لا سيما التين ويقولون “هجم التين” و “تين مشطب على الندى” ويرفعون أيديهم للسماء مرددين “يا رب ندى وسموم عند عقدك يا زيتون” ويقصدون ثبات أزهار الزيتون على أشجارها.
يتشكل الندى فقط خلال الليالي الصافية من خلال التحريض الحراري غير المنتظم لجزيئات البخار في الهواء وتحويله لسائل بفضل درجة الحرارة المنخفضة من خلال ظاهرة التكثيف. ويتشكل الندى مصدرًا مهمًا للمياه للعديد من الحيوانات كالحشرات الصحراوية وحتى الأغنام في اسكتلندا، والخيول في ناميبيا. وكما تعتمد بعض النباتات الصحراوية على الندى المتكون على أوراقها.
لا أحوج منا في الأردن للإستفادة من التقنيات الحديثة المستخدمة في جمع الندي واستثماره. ويبدو أن هذا الأمر قد غدى موضع اهتمام من قبل المركز الإقليمي لأبحاث المياه بجامعة جرش الذي أنشأ حديثاً.