بقلم الأستاذ الدكتور بشير جرار
نتعرف على طائر الشحرور من نغمة تغريده الشجي ومن منقاره المدبب القصير برتقالي اللون ولونه الأسود الجميل، وتغريده هي وسيلته للتواصل مع الطيور الأخرى ولجذب الأنثى. يشاهد الشحرور بالمتنزهات والحدائق العامة والمناطق الحرجية والغابات وفي حدائق المنازل الحضرية حيث يتوفر الغذاء، ويزداد نشاطه بكثرة أثناء فترة التكاثر خلال الربيع وحتى منتصف الصيف. ويتواجد الشحرور في بلاد الشام وأجزاء من العراق والكويت وشمال المملكة العربية السعودية وهو مقيم غير مهاجر. وكما يشاهد بالمناطق المعتدلة من اوروبا وشمال وغرب آسيا واستراليا ونيوزيلندا وعلى سواحل شمال افريقيا. ويهاجر الشحرور بفصل الشتاء من هذه المناطق محلياً بشكل محدود بمكان تواجده إلى أمكنة أكثر دفئاً، وكما يهاجر من بداية الشتاء من اوروبا إلى شمال افريقيا ثم يعود إلى مناطق تكاثره في الربيع.
ينتمي طائر الشحرور إلى عائلة الطيور السمنية (Turdidae) ورتبة العصفوريات، وإسمه العام بالإنجليزية (Blackbird) وإسمه العلمي باللاتينية (Turdus merula) وتعني الطائر الأسود السمني. والشحرور طائر صغير الحجم يتراوح طوله ما بين 23-26سم ووزنه ما بين 80-125غم ويمد جناحاه حتى 35سم. يرتدي ذكر الشحرور بزة الراهب السوداء بينما لون ريش الأنثى بني باهت مائل للرمادي مع مناطق فاتحة في البطن والصدر، ويمتاز الشحرور بمنقاره البرتقالي القصير المدبب يساعده في التقاط الحشرات ليتغذى عليها وتحيط حلقة صفراء حول كل عين. ويتغذى الشحرور على الحشرات بالأخص العث والذباب والخنافس وديدان الأرض والفواكه لا سيما التوت والبذور والعناكب والقواقع وصغار البرمائيات، وهو أكثر مشاهدة في البساتين في عمق الغطاء النباتي الكثيف.
يبدأ موسم التكاثر الشحرور في الربيع، حيث تضع الأنثى ثلاث مرات وبمعدل 3 إلى 6 بيضات زرقاء شاحبة مبرقشة بالبني في عش بمناطق شجرية كثيفة على شكل كوب مصنوع من القش والطين مبطن بالأوراق والريش. وتحتضن الأنثى البيض لمدة 12-14 يوماً بينما يتشارك الوالدان بالدفاع عن عشهما ومنطقتهما وبرعاية فراخهما لمدة أسبوعين حتى تصبح قادرة على الطيران وتغادر العش بعد 20 يوم من فقض البيض وبعد أن تصبح قادرة الإعتماد على نفسها والبحث عن طعامها.
يتأقلم طائر الشحرور مع الأنشطة البشرية ومع التغير العمراني بالمناطق الحضرية إلا أنه يواجه أشكال من التهديد لا سيما فقدان مواطنه الطبيعيةمع تدمير الغابات والأنظمة البيئية الطبيعية بسبب الأنشطة البشرية، مما أفقده الأماكن المناسبة للتعشيش والتغذية. وكما أثرت التغيرات المناخية على مواعيد هجرته وتوافر طعامه. يضاف إلى تعرضه للإفتراس من قبل الطيور الجارحة والغربان والقطط الشاردة والقيق الأراسي. ويفاقم التهديد الذي يتعرض له الشحرور بعض الأنشطة البشرية لا سيما ملوثات البيئة والصيد الجائر والإفراط باستخدام المبيدات الحشرية والاصطدام بالجدران المنزلية.
يحتل الشحرور مكانة خاصة لدى ذاكرة الشعوب وأدابها وفلوكلورها من خلال إرتباطه بالصوت العذب الذي يبعث على الفرح والسرور. فهو طائر الشعراء الأسطوري أسقطوا عليه مشاعرهم وأحاسيسهم وشغل تفكير والفلاسفة وبهر عشاق الطبيعة. وتغنى شعراء الصرب والطليان والانجليز والألمان والنرويج بجمال الشحرور وعوذبة صوته بأشعار وغيرهم. وكما تغنى به شعراء العرب والعجم وقال معروف الرصافي في أحد قصائده:
ناح الحمام وغرد الشحرور هذا به شجن وذا مسرور
وكما شغلت رمزية الشحرور بال الكتاب العرب وكان مصدر إلهامهم. فقد جاءت دراسة للكاتب المغربي المعنونة “غواية الشحرور الأبيض” انتقاماً وتكريماً للطفل محمد شكري الذي كان أقرانه يعيرونه ب “الطائر الأسود” يوم كان طفلاً متشرداً ومطارداً في العلوم السفلية بطنجة. وكما صاغت الثقافات المختلفة للشعوب أسطورة “الملك شحرور” بأشكال مختلفة حول الحب والولاء والإخلاص والوفاء والخيانة.
وشكل الشحرور مكانة هامة في العديد من تراث الأمم والذاكرة الشعبية وقيمها الثقافية عبر العصور. وكما يرمز للشحرور في بعض الثقافات إلى الحرية والبهجة، نظرًا لتغريده الجميل وحركته السريعة. وتتنوع تغريدة الشحرور حسب نشاطه، فهي بطيئة تشبه لحن الناي وهو مستقر في عشه أو على أغصان الأشجار مكونة من مقطوعة قصيرة يكررها كل عدة ثوان بينما تكون صاخبة حماسية أثناء الطيران. والشحرور طائر موسيقي بلا منازع. ولهذا لقبت الفنانة اللبنانية الراحلة صباح ب “شحرورة الوادي” تيمنناً بطائر الشحرور. وأطلق على الشحرور في الحضارة الفارسية “زرياب” وفي حضارة المغرب العربي ب “سقساق”. ولهذا أطلق على الشاب المبدع الذي تتلمذ على يد إسحاق الموصلي وقدمه للخليفة هارون الرشيد الذي أعجب بصوته وأطلق عليه لقب “زرياب” مما أشعل نار الغيرة لدى الموصلي فطلب منه مغادرة بغداد. وغادر زرياب (الشحرور) بغداد إلى المغرب ثم الأندلس حيث أحدث ثورة عارمة بالموسيقى وأضاف الوتر الخامس للعود وأسس مدرسة الموسيقى بالأندلس.