قبل الخوض في موضوع المثقف العربي من حيث واقعه و دوره قد يكون علينا أن نعّرف مفهوم المُثقف، والواقع أنّ هناك تعريفات كثيرة للمُثقف، فقد اعتبر البعض المُثقف هو ذلك الفرد الذي يلّم من كل علم بطرف فهو يعرف شيئاً في السياسة، وشيئاً في الإقتصاد وشيئاً في التاريخ و هكذا، وقد يكون هذا التعريف هو المفهوم القديم للمُثقف حيث إنّ المعرفة الإنسانية كانت محدودة، وبالتالي كان بإمكان المثقف أن يعرف شيئاً عن كل شيء، اما في هذا العصر حيث توسعت المعارف و تعددت التخصصات، بل توالدت فروع المعرفة في المجال الواحد فلم يعد ممكناً لكائنٍ من كان أن يلّم حتى في فروع التخصص الواحد، وإنطلاقاً من هذه الحقيقة عرّف البعض المثقف بأنه الشخص الذي يعرف كل شيء عن شيء أيّ بمعنى آخر اعتبر هؤلاء أنّ المثقف هو الشخص المتخصص على مستوى عالٍ في مجال معرفي معين، مع أنه قد لا يكون ذا معرفة معتبرة في المجالات المعرفية الأخرى، والواقع أن هذا المفهوم الأخير قد ينطبق على المتعلم لا على المثقف، فالمتعلم قد يكون متخصصاً على مستوى رفيع في فرع معرفي معين كالإقتصاد مثلاً ولكن هذا لا يعني أنه مثقف، مع أنّ هناك صلة لا يمكن نكرانها بين العلم و الثقافة، بمعنى أن المثقف لا يمكن أن يكون مثقفاً بدون أن يكون لديه حد معقول من التعليم، والمتعلم بحق لا يمكنه أن يكون متعلماً بدون أن يكون لديه قدر معقول من الثقافة.
إنّ التعريف الذي يمكن أن يكون مقبولاً في هذا السياق للمثقف هو أنه ذلك الشخص الذي يمتلك رؤية معينة لقضايا حياته و وطنه و مجتمعه، ومن البديهي أنه لا يمكنه أن يكون كذلك بدون أن يكون لديه قسط معقول من التعليم.
وإذا قبلنا بالمفهوم السابق للمثقف فإننا لا بّد أن ندرك أن دوره هام و حيوي في المجتمع، فهو إنسان يمتلك الوعي و القدرة على الفهم و التحليل لمجمل القضايا والإشكاليات التي تواجهه، الأمر الذي يُفترض أن يقود إلى مساهمة فاعلة في حياة وطنه و مجتمعه.
في ضوء الفهم الآنف الذكر لمفهوم المثقف و دوره يمكن أن نطرح السؤال الرئيسي في هذه المقالة وهو : ما واقع دور المثقف العربي وما دوره المأمول؟.
لقد بدأ دور المثقف العربي يتبلور مع نهايات الدولة العثمانية التي حكمت العرب لمدة خمسة قرون تقريباً، فقد شهدت في مرحلتها الأخيرة نزعة ” تتريك ” جميع رعايا الدولة بما فيها العرب، كما صدف أن كثيراً من المثقفين العرب درسوا في عواصم الغرب و إطلّعوا على أسباب تقدمه و نهضته، ومن هنا بدأ بعضهم بنقد الأوضاع بل والمطالبة بالإستقلال عن الدولة العثمانية وذلك من خلال إنشاء الجمعيات، وإصدار المجلات، وبث الروح الوطنية والقومية بالوسائل المتاحة في ذلك الحين، وقد كان أن دفعو ثمناً غالياً بسبب نشاطاتهم هذه حيث علقّ جمال باشا السفاح كثيراً منهم على أعواد المشانق في دمشق وبيروت.
ومع انكسار الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 ) وتمزيق الوطن العربي من خلال إتفاقية سايكس بيكو (1916) بدأ المثقف العربي يواجه أوضاعاّ جديدة تتمثل باستعمار غربي يدّعي أنه أنتدب لتطوير أوضاع الدول العربية بينما هو في حقيقة الأمر يرمي إلى نهب خيرات هذه الدول، بل والأسوأ من ذلك التمهيد لخلق كيان صهيوني يقسم الوطن العربي ويكون بمثابة قلعة إستعمارية متقدمة تضرب أية محاولة للتحرر و التقدم في الوطن العربي.
لقد نشط المثقفون العرب في هذه المرحلة ضد الأوضاع الجديدة برغم محدودية عددهم و وسائلهم , ويمكن القول بأن كل دولة عربية كان لها مثقفوها الذي ساهموا في إدانة الممارسات الاستعمارية والوقوف في وجهها , ومن السهولة بمكان الاشارة االى عشرات الاسماء وبالذات في مصر , وسوريا , ولبنان , غير أن الحقيقة الموضوعية تقتضي ان نقول بأن تأثيرهؤلاء المثقفين كان متواضعاً, وذلك بحكم شيوع الأمية بين الجماهير, وضعف وسائل الاتصال , وشراسة القوى الاستعمارية في ملاحقة الأصوات المعارضة , فضلاً عن تفشي الأمراض الاجتماعية في أقطارالوطن العربي كالعشائرية ,والطائفية , والمناطقية وغيرها . ومع استقلال معظم الدول العربية بعد منتصف القرن الماضي بدأ المثقف العربي يواجه أوضاعآ جديدة أخرى تتمثل في حكم الدولة الوطنية أو القطرية ومع أنّ منطق الأشياء كان يفرض أنّ تطلق الدولة القطرية الحريات, وأن تسمح للمثقفين بلعب الدور المناسب لهم في مجال التوعية والتنوير والمساهمة الفاعلة في إحداث النهضة إلا أنّ السلطات في معظم الدول العربية وقفت موقفآ سلبيآ مع المثقفين ولم تقّدر دورهم حق قدره, بل أنّ الإنصاف يقتضي أن نقول بأنها في كثير من الأحيان لاحقتهم واضطهدتهم , والواقع أن شعار الدولة القطرية العربية إزاء المثقفين كان : إما أن تكون معي , وإما أن أعتبرك ضدي , ومن هنا فقد واجه المثقف العربي معضلة حقيقية وهي إما أن يسير في ركاب السلطة ويدافع عنها ويبرر لها كل ما تفعله وإما أن يواجه الاسكات , الملاحقة , وربما السجن أوالقتل ,وبالطبع فقد كان هذا الوضع يختلف من بلد إلى آخر فحرية المثقف في لبنان مثلا أفضل من حرية زميله في سوريا تحت حكم البعث , ومجال عطاء المثقف في مصر مثلاً ظل على الدوام أرحب من مجال قرينه في ليبيا تحت حكم القذافي كما أنّ هذا الوضع كان يختلف ايضا من مرحلة تاريخية إلى أخرى فمع بدايات الاستقلال كانت الانظمة العربية أكثر إيجابية وتسامحاً , ولكن مع الزمن وحدوث إنقلابات عسكرية في كثير من الدول العربية , ومع تولي بعض الانظمة الشمولية الحكم ( اليمن الجنوبي , ليبيا …..) , تراجع منسوب الحرية , وتزايد تهميش المثقف بل وتحديد دوره ومحاصرته .
إنّ واقع المثقف ودوره مرتبطان حكمآ بالديمقراطية فالمثقف لا يستطيع أن يمارس دوره التوعوي والتنويري والنضالي في بيئة تسلطية لا تسمح بحرية الرأي والتعبير , ومن هنا فإن قضية المثقف العربي مرتبطة بقضية الديمقراطية في وطنه العربي , وحيث ان معظم الدول العربية لا تحكمها أنظمة ديمقراطية تؤمن بالمشاركة وتسمح بالتعبير الحر فإن من غير المتوقع أن يمارس المثقف العربي دوره المطلوب .
إن الوضع الحالي السائد في العالم العربي يفرض مسؤليات مضاعفة على المثقف العربي , فهذا المثقف مطلوب منه أن يقاوم تسلط أنظمة الحكم , ومطلوب منه أن يعمل على توعية الشعب وتنويره , واستشراف مستقبل واعد له .
ولعل الاولوية الآن التي يجب أن يركز عليها المثقف العربي لتسهيل مهمته وتفعيل دوره هي نشر التعليم في ربوع الوطن، فالشعب المتعلم هو الذي يمكن أن يحتضن المُثقف، ويدافع عنه ويمكنه من تفعيل دوره .
صحيح ان المثقف العربي ليس هو صانع القرار في هذا الموضوع بل هو السياسي , ولكن الواقع هو أّنّ المثقف العربي يظل صاحب دور طليعي في التركيز على مثل هذه القضية الحيوية , وتبيان اهميتها, وانعكاساتها على تقدم المجتمع ونهضته، وختامآ فإن واقع المثقف العربي لا يسر كثيرآ لأسباب كثيرة قد يكون بعضها خارجا عن إرادته أما دوره المستقبلي المطلوب فهو هام للغاية , ومن حق الجماهير العريبية في كل مكان ان تنتظره بفارغ الصبر .
د. أحمد بطّاح