“على الرغم من رحيله، نود التأكيد أن روحه باقية معنا جميعاً…… في ذكرى إدوارد سعيد الذي توفي في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2003 الساعة السادسة والنصف صباحاً”
قبل تسع سنوات كتبت تعقيباً على كتاب “الاستشراق”، في محاولة لتوضيح ماكنت أظنه لكنني لم أفصح عنه، مركزاً ليس فقط على المناقشات العديدة التي نشأت منذ صدور كتابي عام 1978، وإنما على السبل التي يضع بها عمل حول صور ” الشرق ” نفسه ليكون عرضة لمزيد من سوء الفهم. وعليه، فإنني أجد نفسي أشعر بالسخرية أكثر من السُخط حول ذلك الشيء نفسه اليوم، وإنما هو إشارة إلى عمري الذي راح يمضي من دون أن أحس به. كما جلبت وفاة مفكرين وسياسيّين ومعلمين شخصيّين وكاتبين وناشطَين كبيرَين مؤخراً هما إقبال أحمد وإبراهيم أبو لغد لي الحزن والشعور بالخسارة إضافة إلى الاستسلام ونوع من العناد الذي سوف يظل مستمراً.
وصفت في كتاب مذكراتي “خارج المكان” عام 1999 العوالم الغريبة والمتناقضة التي ترعرعت فيها، مقدماً لنفسي وقرائي وصفاً تفصيلياً عن البيئة التي أظن أنها شكلتني في كل من فلسطين ومصر ولبنان. غير أن ذلك كان وصفاً ذاتياً أوقف فجأة انشغالي بالسياسة لسنين طويلة كانت قد بدأت في أعقاب الحرب بين العرب والإسرائيليين عام 1967.
يتعلق كتاب “الاستشراق” بالقوى الصاخبة المحركة للتاريخ المعاصر إلى حد كبير، إذ تفتح صفحته الأولى الحديث بوصف للحرب اللبنانية الأهلية التي انتهت عام 1990، مع أن العنف وإراقة الدماء البشعة ما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. لقد فشلنا في عملية السلام في أوسلو، واندلعت الانتفاضة الثانية بالإضافة إلى المعاناة المريرة للفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وغزة المحتلتين من جديد. وقد برزت ظاهرة التفجيرات الانتحارية بكل أضرارها الشنيعة، ولا شيء أكثر فظاعة وغموضاً من أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 ونتائجها في شن الحرب على أفغانستان والعراق. ولايزال احتلال بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية غير الشرعي للعراق مستمراً وأنا أكتب سطوري هذه. إن آثار هذا الاحتلال مخيفة حقاً لمن يتمعن فيها. وهذا كله جزء مما يُفترض أن يكون صراع حضارات لا ينتهي ولا يسكن ولا سبيل لحله. مع هذا كله، لا أظن أن الأمر كذلك.
أتمنى أن أستطيع القول إن الفهم العام لمنطقة الشرق الأوسط والعرب والإسلام في الولايات المتحدة قد تحسن، إلا أنه للأسف لم يتحسن أبداً. وبالنظر إلى مختلف الأسباب، يبدو أن الوضع في أوروبا أفضل إلى حد كبير. كما يبدو أن ما يعجز الزعماء الأمريكيون وأتباعهم من المثقفين
* صدرت هذه المقالة ضمن سلسلة “دراسات في الإسلام والشرق الوسط” في موقع “المجلة” الإلكتروني، بتاريخ الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2003، أي في اليوم التالي لوفاة إدوار سعيد، ثم نشرت فيما بعد ضمن مجموعة مقالاته.
عن فهمه، هو أنه لا يمكن محو التاريخ تماماً كمن يمسح اللوح ليصبح أبيض ونظيفاً، بحيث يمكننا “نحن” أن نكتب عليه مستقبلنا الخاص وأن نفرض أشكال الحياة الخاصة بنا على هؤلاء الناس الأقل شأناً كي يتبعوها. لقد أصبح من الشائع تماماً سماع مسؤولين كبار في واشنطن وأماكن أخرى وهم يتكلمون عن تغيير خارطة الشرق الأوسط، كما لو أن المجتمعات العريقة وآلا ف البشر يمكن تغييرها برجّها كما تُرجّ حبات الفستق الكثيرة في مرطبان. وهذا ما كان يحدث غالباً بخصوص “الشرق” حيث يجري صنع هذه التركيبة شبه الأسطورية وإعادة صنعها مرات لا تحصى منذ غزو نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر. فمن خلال هذه العملية تمت إزاحة رواسب التاريخ التي لا تحصى و تجاهلها أيضاً، وكذلك التشكيلة الواسعة من البشر و اللغات والتجارب بالإضافة إلى الثقافات، وأحيلت هذه الأشياء كلها إلى كومة من الرمال مع الكنوز المسلوبة من بغداد وطحنت بعدها إلى أجزاء صغيرة لا معنى لها.
وتكمن حجتي هنا في أن التاريخ يصنعه الرجال والنساء، تماماً كما يمكن هدمه وإعادة كتابته، وبذلك يغدو “شرقنا”، أي “مشرقنا” ملكاً لنا نوجهه كيفما نريد. ولدي احترام كبير جداً لقدرات أولئك الناس ومواهبهم في تلك المنطقة الناس الذين يناضلون لتحقيق رؤيتهم لوضعهم الحالي وما يريدون أن يكونوا عليه مستقبلاً. لقد كان هجوماً عدوانياً واسعاً ومقصوداً على المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة بسبب تخلفهما وافتقارهما إلى الديمقراطية، بالإضافة إلى إلغائها حقوق المرأة، والتي ننسى ببساطة أن مثل هذه الأفكار من حداثة وتنوير وديمقراطية ليست بأية حال بسيطة ومفاهيم متفق عليها، أشياء مثل بيض عيد الفصح التي قد يجدها أو لا يجدها شخص في غرفة الجلوس. لقد أدت اللامبالاة المثيرة لخبراء القانون الدولي الذين يتكلمون باسم السياسة الخارجية الأمريكية وليست لديهم معرفة على الإطلاق باللغة التي يتكلم بها الناس حقيقة، إلى اختلاق مشهد قاحل أمام القوة الأمريكية لبناء نموذج بديل “لديمقراطية” السوق الحرة.
بيد أن هناك فرقاً بين معرفة الناس الآخرين والأزمنة الأخرى الناجمة عن التفاهم والتعاطف والدراسة المتأنية والتحليل من أجل مصلحتهم، ومن ناحية أخرى هناك المعرفة التي هي جزء من حملة شاملة لتأكيد الذات. وهذه هي بالتأكيد من كوارث التاريخ الثقافية التي سببتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأمريكيين غير المنتخبين، التي شنت حرباً إمبريالية على إحدى ديكتاتوريات العالم الثالث المدمرة، استناداً إلى أسس إيديولوجية تتعلق بالهيمنة العالمية والسيطرة على الأمن إضافة إلى الموارد النادرة، إلا أن مقاصدها الحقيقية كانت مخفية ومُعجّلة ومُعقلنة من مستشرقين خانوا شرف مهنتهم بوصفهم علماء.
كانت المؤثرات الرئيسة في وزارة دفاع جورج بوش ومجلس الأمن القومي من رجال مثل برنارد لويس وفؤاد عجمي، الخبيرَين في العالمَين العربي والإسلامي واللذين ساعدا الصقور الأمريكية في التفكير بشأن هذه الظاهرة غير المعقولة بأن العقل العربي والتراجع الإسلامي المستمر لقرون عدة لا يمكن أن يُغيّر حالهما إلا القوة الأمريكية. وتمتلئ اليوم المكتبات الأمريكية بالدراسات المهترئة التي تحمل عناوين بارزة صارخة حول الإسلام والإرهاب، والتهديد العربي والخطر الإسلامي، كتبها كلها محللون سياسيون محترفون يدّعون المعرفة التي شارك فيها خبراء من المفترض أنهم نفذوا إلى قلوب أولئك الناس الشرقيين الغرباء. كما تُكرر كل من قناتي سي إن إن وفوكس إضافة إلى عدد لا يحصى من مضيفي الإذاعة من إنجيليين ويمينيين، وعدد كبير من الصحف الشعبية وحتى جرائد الطبقة الوسطى، القصص نفسها غير المُثبَتة والتعميمات الواسعة بهدف إثارة “أمريكا” ضد ذلك الشيطان الأجنبي.
فبدون هذه التوعية المنظمة تماماً، بأن الناس القابعين هناك ليسوا مثلنا ولا يقدرون قيمنا حق قدرها – وهذا صميم العقيدة الاستشراقية التقليدية – لما كان هناك حرب. ويستخدم المستشارون الأمريكيون في وزارة الدفاع والبيت الأبيض هذه المقولات نفسها، والأفكار النمطية نفسها أيضاً التي تحط من شأن أولئك الناس، وتسويغات حول استخدام القوة والعنف (وبعد ذلك كله يديرون الجوقة باتجاه أن القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها ) مثل العلماء الذين جندهم الغزاة الهولنديون في ماليزيا وإندونيسيا، وكذلك الجيوش البريطانية في الهند وبلاد ما بين النهرين ومصر وغرب أفريقيا، إضافة إلى الجيوش الفرنسية في الهند الصينية وشمال أفريقيا. وها هم الآن كلهم قد تجمعوا في العراق في جيش كامل من مقاولين خاصين ورجال أعمال متلهفين، ومن سيُعهد إليهم بكل شيء بدءاً من كتابة الكتب المدرسية والدستور إلى إعادة تشكيل الحياة السياسية في العراق بالإضافة إلى صناعة النفط.
كانت كل إمبراطورية على حدة تقول في خطابها الرسمي، بأنها ليست مثل الآخرين، وبأن لها ظروفها الخاصة، وأن مهمتها تنحصر في تنوير الناس وجعلهم متحضرين وإحلال النظام والديمقراطية وأنها لا تلجأ إلى القوة إلا بوصفها حلاً أخيراً. ومما يدعو للحزن أكثر أن هناك دائماً جوقة من المثقفين الراغبين بقول كلمات هادئة حول تلك الإمبراطوريات الوديعة والإيثارية.
ويثير كتابي “الاستشراق” بعد خمس وعشرين عاماً من نشره سؤالاً، وهو هل انتهت الإمبريالية الحديثة بصورة نهائية؟ أم أنها مستمرة في المشرق منذ أيام دخول نابليون إلى مصر أي منذ قرنين؟ وقد عرف العرب والمسلمون أن لعب دور الضحية والانشغال بالحديث عن عمليات النهب الإمبريالي في بلدانهم هو الطريق الوحيد لتجنب المسؤولية في الوقت الحاضر. ويقول المستشرق الحديث: “إنكم قد فشلتم، ولم تصيبوا” فحسب. وهذا بالطبع هو إسهام ﭫ. س. نيبول في الأدب، ففي حين يندب ضحايا الإمبراطورية حظهم كانت بلادهم تذهب إلى الكلاب. إلا أن الحساب السطحي للتدخل الإمبريالي الذي يشير إلى قلة الأماني في مواجهة التعاقب الطويل للسنين التي تستمر في أثنائها الإمبريالية بشق طريقها في حياة أناس مثل الفلسطينيين والكونغوليين والجزائريين والعراقيين.
لنفكر في الخط الذي يبدأ بنابليون، ويستمر مع ظهور الدراسات الاستشراقية، واحتلال شمال أفريقيا، ليصل إلى مهمات مشابهة في فيتنام، وفي مصر، وفي فلسطين وخلال القرن العشرين بأكمله، في الصراع حول النفط والسيطرة الإستراتيجية على منطقة الخليج، وفي العراق وسوريا وفلسطين وأفغانستان. ولنفكر بعد ذلك بظهور القومية المعادية للاستعمار، خلال الفترة القصيرة من الاستقلال التحرري، ثم حقبة الانقلابات العسكرية والتمرد، ومن ثمّ الحرب الأهلية والتعصب الديني، إضافة إلى الصراع اللاعقلاني والوحشية ضد المجموعات المتبقية من “السكان المحليين”. وتنتج كل مرحلة أو حقبة مما ذكر معرفتها المشوهة الخاصة بالآخرين، كلٍّ بصوره المصغرة ومناقشاته المثيرة للجدل.
وكانت فكرتي في “الاستشراق” استخدام نقد إنساني لفتح مجالات الصراع، ولتقديم سلسلة أطول من الأفكار والتحليل من أجل استبدال الاندفاعات القصيرة من الغضب الجدالي الذي يوقف التفكير ويحجزنا بداخله. وقد أسميت ما أحاول القيام به “الإنسانوية”، وهي كلمة أواصل استخدامها بعناد على الرغم من الرفض المحتقر لهذا التعبير الذي يبديه نقاد حداثويون متمرسون. وأقصد بكلمة “إنسانوية” قبل كل شيء محاولة إلغاء ما دعاه بليك “قيود العقل الملفقة” وبذلك أكون قادراً على استخدام العقل الإنساني تاريخياً وعقلانياً من أجل تحقيق أهداف فهم تأملي. علاوة على ذلك، فإن الإنسانوية مدعمة بحس مجتمع مع مفسرين آخرين ومجتمعات وأزمنة أخرى: لذلك لا يوجد هناك شيء على وجه الدقة نقول عنه إنسانوي معزول.
بناء على ذلك من الصحيح القول إن كل مجال يرتبط بغيره، وإنه ما من شيء يدور في عالمنا يستمر أبداً معزولاً وخالياً من التأثير الخارجي. فنحن بحاجة للحديث عن قضايا الظلم والمعاناة ضمن سياق متوضع على نحو واسع في التاريخ والثقافة والواقع الاقتصادي والاجتماعي. وقد صرفت جزءاً كبيراً من حياتي في غضون الخمسة والثلاثين عاماً الماضية في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره الوطني، ولكنني حاولت دائماً أن أقوم بهذا مع الاهتمام الكامل بواقع الشعب اليهودي الذي عانى الكثير من الاضطهاد والإبادة الجماعية. إن الشيء الأساسي هنا هو أن الكفاح من أجل المساواة في فلسطين/ إسرائيل يجب أن يوجّه نحو هدف إنساني، ألا وهو التعايش، وليس المزيد من القمع والإنكار.
وبوصفي باحثاً إنسانوياً معنيّاً بالأدب، فإن لي من العمر ما يكفي للتدرب مدة أربعين عاماً في مجال الأدب المقارن، الذي تعود أفكاره الرئيسة إلى ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. ويجب أن أذكر أيضاً الإسهام الإبداعي الرائع لجيامباتيستا فيكو، الفيلسوف والفقيه اللغوي النابولي الذي سبقت أفكاره أفكار المفكرين الألمان مثل هردر وولف، اللذين تبعهما فيما بعد غوته وهمبولت وديلثي ونيتشه وغادامير، وأخيراً فقهاء اللغة الرومانسيون في القرن العشرين من أمثال إيرك أورباخ وليو سبيتزر وإيرنست روبرت كورتيوس.
بالنسبة إلى الشباب من الجيل الحالي فإن فكرة فقه اللغة بذاتها توحي بشيء عتيق وبالٍ للغاية، لكن فقه اللغة في الحقيقة هو الأكثر جوهرية وإبداعياً بين الفنون التفسيرية. ويتمثل هذا لي بصورة رائعة في اهتمام غوته بالإسلام عموماً وبشاعر القرن الرابع عشر الفارسي خصوصاً، الذي استغرقته هذه العاطفة فأدت إلى تأليف ديوانه، الذي أثر في أفكار غوته المتأخرة عن الأدب العالمي، وهي دراسة تعنى بآداب العالم كله بوصفها كلاً متناغماً يمكن استيعابه نظرياً فحافظ على فردية كل عمل أدبي من دون التغاضي عن الروح الكلية.
وثمة سخرية كبيرة يجب أخذها بالحسبان عند إدراك أن العالم المعاصر المعولم الذي يقترب بعضه من بعض، وهي أننا ربما نقارب نوعاً من توحيد المعايير والتجانس الذي تشكلت أفكار غوته تحديداً لمنع حدوثه. ففي مقالة نشرت عام 1951 بعنوان “فقه لغة الأدب العالمي”، أثار أورباخ هذه النقطة بالضبط. وكان كتابه العظيم “محاكاة”، الذي نُشر في بيرن عام 1946 حين كان أورباخ منفياً خلال الحرب يقوم بتدريس اللغات الرومانسية في إسطنبول، بمنزلة شهادة على التنوع والتجسد الملموس للواقع المصور في الأدب الغربي من هوميروس إلى فيرجينيا وولف. ولكن من خلال قراءة مقالته عام 1951، فإن المرء يشعر أنه بالنسبة إلى أورباخ كان الكتاب العظيم الذي ألفه بمنزلة مرثاة لزمن كان فيه الناس يستطيعون تفسير النصوص لغوياً ومادياً وحسياً وحدسياً مستخدمين سعة الاطلاع وإتقاناً ممتازاً للغات عدة لتعزيز نوع الفهم الذي دعا إليه غوته من أجل فهم الأدب الإسلامي.
إن المعرفة الإيجابية للغات والتاريخ كانت ضرورية، ولكنها لم تكن كافية كثيراً من دون التجميع التلقائي للحقائق الذي سيشكل وسيلة ناجعة لاستيعاب ما كان يقصده مؤلف مثل دانتي على سبيل المثال. والمتطلب الرئيس لفهم فقه اللغة الذي تكلم عنه أورباخ وأسلافه وحاولوا ممارسته، كان من النوع الذي يدخل تعاطفياً وذاتياً في حياة نص مكتوب كما يُرى من منظور عصره ومؤلفه. وبدلاً من العزلة والعداء لزمن آخر وثقافة مختلفة، فإن فقه اللغة كما طُبق على الأدب العالمي قد تضمن روحاً إنسانية مفعمة بالكرم، أو إذا كان بوسعي استخدام تعبير “كرم الضيافة”. وهكذا فإن عقل المُفسّر يفسح المجال بفعالية لمكان يوجد فيه “الآخر” الأجنبي. وهذا الصنع الخلاق لأعمال هي في غير هذا السياق غريبة ونائية يُعدّ من أهم مظاهر مهمة المفسّر.
حطمت كل هذا وقوضته الاشتراكية القومية في ألمانيا. فبعد الحرب، لاحظ أورباخ بأسى أن توحيد معايير الأفكار والتخصص الزائد أكثر فأكثر للمعرفة قد قلص تدريجياً من الفرص أمام ذلك النوع المتقصي من العمل فقه اللغوي الذي يتحرى دائماً والذي كان يُمثّله. ولكن للأسف، الحقيقة التي تدعو للحزن أكثر أنه منذ وفاة أورباخ عام 1957 قد تقلصت فكرة البحث الإنسانوي وممارسته من حيث المجال والمركزية. فبدلاً من القراءة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإن طلابنا اليوم غالباً مشغولون بالمعرفة المجزأة المنتشرة على الشابكة الإلكترونية وفي وسائل الإعلام.
وما هو أسوأ الآن، أن التعليم مهدد بالعقائد القومية والدينية التي غالباً ما تبثها وسائل الإعلام في أثناء تركيزها اللاتاريخي والحسي على الحروب الإلكترونية البعيدة التي تعطي المشاهدين الإحساس بالدقة الجراحية، ولكنها في الحقيقة تغض الطرف عن المعاناة الرهيبة والدوار الذي تحدثه الحروب الحديثة. وفي مواجهة عدو مجهول بالنسبة إليه يخدم مصطلح “إرهابي” الهدف العام بجعل الناس مثارين وغاضبين، تستدعي الصور الإعلامية المزيد من الانتباه ويمكن استغلالها في أوقات الأزمات وفقدان الأمان كتلك الأوقات التي نجمت في أعقاب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
وحين أتحدث بوصفي شخصاً أمريكياً وعربياً معاً يجب عليّ أن أطلب من القارئ ألا يستخف بذلك النوع من النظرة السطحية للعالم بأن حفنة قليلة من النخبة المدنية في وزارة الدفاع الأمريكية قد صاغت للسياسة الأمريكية حيال العالمين العربي والإسلامي، مشهداً فيه الإرهاب والحرب الاستباقية، بالإضافة إلى تغيير النظام الأُحادي الجانب – المدعم بأكبر الميزانيات العسكرية ضخامة في التاريخ – هي الأفكار الرئيسة التي تُناقش بصورة دائمة وبحدود قصوى في وسائل إعلام تعزو لنفسها وظيفة إنتاج ما تَسمُه “بالخبراء” الذين يصادقون على الخط العام الذي تنتجه الحكومة. فقد استبدل بالفكر والحوار والنقاش العقلاني والمبدأ الأخلاقي المستند إلى مفهوم دنيوي أن البشر لابد أن يوجدوا تاريخهم الخاص بهم الأفكار المجردة التي تحتفي بالاستثنائية الأمريكية أو الغربية وتحط من قيمة الارتباط بالسياق وتزدري الثقافات الأخرى.
ولعلكم ستقولون إنني أتنقل كثيراً على نحو مفاجئ بين التفسير الإنسانوي من ناحية والسياسة الخارجية من ناحية أخرى، وإن مجتمعاً تكنولوجياً حديثاُ يمتلك في الوقت نفسه الشابكة الإلكترونية وطائرات ف16 النفاثة المقاتلة بالإضافة إلى القوة غير المسبوقة يجب في النهاية أن يقوده خبراء سياسة فنيون عظماء من أمثال دونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل. ولكن ما يضيع هنا فعلاً هو الإحساس بالكثافة والاعتماد المتبادل في الحياة الإنسانية، اللذان لا يمكن اختزالهما إلى وصفة بسيطة ولا إلغاؤهما بوصفهما عديمي الصلة بالموضوع.
وهذا هو جانب واحد من المناظرة العالمية؛ والموقف في الدول العربية والإسلامية نادراً ما يتحسن. وكما نوهَت رلى خلف، فإن المنطقة انزلقت بسرعة في عداء لأمريكا يُظهر فهماً ضعيفاً لواقع الولايات المتحدة بوصفها مجتمعاً. ونظراً لأن الحكومات في هذه المنطقة لا حول لها ولا قوة نسبياً للتأثير في سياسة الولايات المتحدة تجاهها، فإنها تحول طاقاتها نحو قمع شعوبها وإحباطها، مما يسفر عن استياء وغضب ولعنات يائسة لا تؤدي إلى شيء في فتح مجتمعات يتم فيها تجاوز الأفكار الدنيوية حول التاريخ الإنساني والتنمية من قبل فشل وإحباط بالإضافة إلى نزعة إسلامية مبنية على التعليم بالاستظهار ومحو ما يُفهم على أنه أشكال أخرى منافسة من المعرفة الدنيوية. كما أن الاختفاء التدريجي للتقليد غير الاعتيادي للاجتهاد الإسلامي – وهو عملية استنباط قواعد إسلامية بالعودة إلى القرآن- كان واحداً من الكوارث الثقافية الكبيرة في عصرنا، الأمر الذي أدى إلى غياب التفكير النقدي والصراع الفردي مع مشكلات العالم الحديث ببساطة عن الحياة الثقافية.
وهذا لا يفضي إلى القول بأن العالم الثقافي قد تراجع ببساطة من جانب واحد إلى استشراق محدّث مقاتل وإلى رفضية شاملة من جانب أخر. وقد كشفت قمة الأمم المتحدة المنعقدة في جوهانسبورغ العام الماضي، على الرغم من محدوديتها، في حقيقة الأمر عن مساحة واسعة من الاهتمام العالمي المشترك الذي يوحي بظهور مرحب به لوحدة جماعية جديدة ويمنح ذلك المفهوم المستسهل غالباً عن “عالم واحد” ضرورة عاجلة. ومع ذلك فإن علينا أن نقر أنه لا أحد يمكنه في هذا كله أن يعرف بصورة احتمالية الوحدة المعقدة غير الاعتيادية لعالمنا المتعولم.
إن الصراعات الفظيعة التي تقود الناس تحت عناوين موحدة مزيفة مثل “أمريكا” أو “الغرب” أو “الإسلام” وتخترع هويات جماعية لأعداد كبيرة من الأفراد هم في الحقيقة مختلفون تماماً بعضهم عن بعض لا يمكن أن تستمر قوية كما هي عليه الآن، ولا بد من معارضتها. وما تزال هناك تحت تصرفنا المهارات التفسيرية العقلانية التي هي إرث التعليم الإنسانوي وليست تقوى عاطفية تحثنا على العودة إلى القيم التقليدية أو الكلاسيكية، ولكن بوصفها ممارسة نشيطة للخطاب العقلاني العلماني الدنيوي. إن العالَم العَلماني هو عالم التاريخ الذي يصنعه البشر؛ ولا يخضع التفكير النقدي لأوامر الالتحاق بالصفوف التي يسير فيها الواحد ضد عدوه الآخر المحدد. فبدلاً من الصراع المصطنع بين الحضارات، نحن نحتاج إلى التركيز على العمل المتأني المشترك للثقافات المتداخلة فيما بينها، التي يقترض بعضها من بعضها الآخر، لتعيش معاً. ولإحراز هذا النوع من الفهم الأوسع نحتاج إلى الوقت بالإضافة إلى البحث الصبور الشكيّ، الذي يعززه الإيمان بمجتمعات التفسير التي يصعب مدّها بأسباب الحياة في عالم يتطلب فعلاً ورد فعل آنياً.
وتتركز الإنسانوية في قوة الفردية الإنسانية والحدس الذاتي لا في الأفكار المتلقاة والسلطة. كما يجب قراءة النصوص بوصفها نصوصاً مُنتَجَة تعيش على كافة أنواع ما أسميته بالطرق الدنيوية. بيد أن هذا لا يستبعد القوة، لأنني خلاف ذلك حاولت إظهار التلميحات وكذلك تراكب القوة حتى في أكثر الدراسات عمقاً. أخيراً، وما هو أكثر أهمية، أن الإنسانوية هي المقاومة الوحيدة وأقول أيضاً النهائية التي نمتلكها ضد الممارسات والمظالم اللاإنسانية التي تشوه التاريخ الإنساني.
بقلم إدوارد سعيد ترجمة د. فؤاد عبد المطلب