عادة ما يخطر في بالي سؤالٌ يُحيّرني، وتحيّرُني إجابته، وهو: هل هناك فرق بين الغباءِ والخيانة ؟!
ما يدفعني نحو التفكير في مثل هذا السؤال الغريب هو ما أراه ويراه غيري من قراراتٍ تعسفية اتخذتها السلطة التنفيذية، من غير مقدماتٍ منطقية، لم تحسُبْ ولم تفكر بتبعات قراراتها، ولا المآلات المتوقعة لتعسُفِها المفاجئ، وكأن الحكومة تعيش في عالم آخر، ومفصولة بالكامل عن الجسم السكاني وأوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
صدرت عن السلطة التنفيذية من الحكومة السابقة، والحالية، خلال الفترة القصيرة من الأشهر والأسابيع المنصرمة، عدة قرارات لا أصنفها إلا تحت عنوانين؛ الأول يشير إلى ضرب من الغباء والمناكفة، وينطبق عليه المثل الشعبي “عنزة ولو طارت”، أما الثاني فيشير إلى التعسف والظلم وينطبق عليه مثلٌ شعبي آخر “أنا جوزك والرايد الله”. وهاتان الحالتان ليستا إلا وصفة للخراب. فما اجتمع الغباء والتعسف إلا كان الخرابُ ثالثهما. ولذلك فإني أعيذ نفسي، وأبناء بلدي، بالله تعالى من غباء النخبة وتعسف السلطة.
مبرراتي التي أسوقها بين يدي الموضوع كثيرة، ولا أكاد أحصيها، لكني سأركز على أهمها وأكثرها وضوحاً وتجلٍ.
لا تعمل السلطة التنفيذية، في أي بلدٍ من بلدان الدنيا المتحضرة، وفقاً لمعايير تجارية بحتة، وليس من وظائف السلطة التنفيذية أن تتاجر، بل لا بدّ ان تعمل بناءً على توليفة من معايير سياسية – اجتماعية – اقتصادية، يأتي على رأسها معيار الكلفة – الفائدة. ما يعني بأن أي قرارٍ نتخذه لابد أن نوازن فيه بين الكلفة المتوقعة من القرار والفوائد المتوخاة منه. والكلفة هنا ليست مالية فقط بل تمتد إلى كافة أشكال التكاليف، بما فيها التكاليف السياسية والاجتماعية والبيئية إن وجدت. والفوائد المرجوة من أي قرار لابد أن تكون شمولية الأبعاد.
عندما تعمل السلطة التنفيذية كتاجر، أو تتحالف مع التجار ورجال الأعمال، أو أنها تسرع لإنقاذ مؤسسة فاشلة وتفشل مؤسسة ناجحة، فإنها لا تُمارس الظلم فحسب، بل تفتح الأبواب مُشرّعة للفساد والفاسدين المُفسدين، وتتجه نحو التشريع لمصالحهم وتتخذ القرارات التي من شأنها تعظيم منافعهم وحصتهم من الكعكة الإنتاجية بغير حق ولا شرع. وقد أثبتت تجارب الأمم بأن الحكومة هي أفشل تاجر. فهي تتقن إنتاج السلع الرديئة بكلفة باهظة. ومن لا يصدق هذه المقولة فليأخذ عينة من منتجها البشري والمادي.
ينطبق مفهوم التاجر والتجارة الفاشلة على كثيرٍ من المشاريع الحكومية الفاشلة حتى وإن بدت للعيان براقة، ومنها بعض الجامعات الحكومية الفاشلة التي لا تنتج إلا فشلاً ممزوجاً بالإخفاق المرير.
من القرارات التي اتخذتها السلطة التنفيذية من غير مبرر منطقي مُلِحّ كان تخفيض عدد طلبة التوجيهي الناجحين في السنة الدراسية الماضية والحالية، ليس بناءً على معايير موضوعية بناءة. وكأن وزير التربية والتعليم، الذي يحمل شهادة الدكتوراة في الإدارة العامة، لا يعرف شيئاً عن الإدارة العامة. لأن من أساسيات الإدارة العامة مفهوم اسمه النظرة الشمولية للقرار الإداري والتدرج في الإصلاح.
خلال العشرين سنة الماضية، وما يزيد قليلاً، دفعت الحكومة أصحاب رؤوس الأموال وشجعتهم نحو الاستثمار في التعليم العالي. وكانت جامعة العلوم التطبيقية من أوائل مؤسسات التعليم العالي التي انبثقت فكرتها من مجموعة من المغتربين الأردنيين. فلاقت الفكرة استحساناً عظيماً من قبل معظم المهتمين. وعلى الرغم من تحفظي في تلك الأثناء على المبدأ ذاته لكنني سرت مع التوجه باعتباره انفتاحاً سياسياً لدولة كنت أنظر إليها وكأنها منغلقة أمام العالم في مجال نشاط القطاع الخاص في التعليم العالي.
كان تحفظي على مبدأ دخول القطاع الخاص في مجال التعليم العالي مرتكزاً على مبدأ سيادة الدولة ومسؤوليتها الاجتماعية نحو حاجة المجتمع للرعاية في مجال التعليم العالي، ومنطلِقاً من سؤال استنكاري : كيف للمال من غير رأس أن يتحكم بالرؤوس، أي كيف لصاحب المال على جهله أن يتحكم بأصحاب العقول؟ وتدور الأيام لتثبت صحة ومشروعية هذا السؤال الاستنكاري!!
لكن دولتنا التي انفتحت وتحررت من العقد الأمنية شرّعت للقطاع الخاص واستثماراته في التعليم العالي. ومن وجهة نظري انقسم المستثمرون في التعليم العالي الخاص إلى ثلاثة أصناف: الأول) رؤساء جامعات، ووزراء تعاليم عالي سابقون ومبتزون من الوزراء وموظفي الدولة. ثانياً) أصحاب رؤوس أموال من الجهلة الذين استغلوا حاجة الدولة للتحرر من مسؤوليتها الاجتماعية تحت وطأة ندرة الموارد المالية. الثالث) الذين لا يعلمون من الأمر شيئاً.
وفي كل الأحوال نشط استثمار هذه الفئات الثلاث في التعليم العالي وتوسعت في التزاماتها المالية فيه إلى حد التورط. وتوضحت قواعد اللعبة أمام الجميع. ومن أجل ذلك نشطت الحكومة بالتشريعات ذات العلاقة، وخلقت مؤسسات من أجل ذلك.
وقد وصلت، بتقديري الشخصي، القيمة السوقية للاستثمارات الخاصة في التعليم العالي إلى ما يزيد عن مليار دينار. ويعيش على هذه الاستثمارات آلاف الأسر، ويقوم قطاع محدد من الاقتصاد الوطني على وجود الجامعات الخاصة. فبناءً على البيانات الرسمية يستفيد من وجود جامعة جرش، على سبيل المثال، ما بين 65 إلى 70 ألف نسمة. فهناك المدرسون والموظفون الإداريون، وعمال التنظيفات والحرس، وما شابه. وحسب نظرية المضاعف يتبادل الدينار الناشىء من وجود الجامعة عدد من الأفراد يصل مجموعهم إلى 70 ألفاً.
في ظل هذه الأوضاع ليس من الحكمة أن تنظر السلطة التنفيذية إلى الجامعات الخاصة وكأنها كومة من النفايات التي يسهل وضعها في قلاب القمامة ورميها في المكب! فالسلطة التنفيذية ممثلة بوزيري التربية والتعليم والتعليم العالي لا تنظر إلى الجامعات الخاصة، باستثناء عدد قليل جداً منها، إلا في هذا الإطار. وما القرارات التعسفية الأخيرة إلا دليل دامغ على ذلك. وهي بهذا السلوك تقول: سأقتلك من أجل أن يعيش أخوك، أو سأقتل أخاك كي تعيش أنت، فلا الأول منطقي ولا الثاني منطقي. وبالمثل فهي تحيي جامعات رسمية فاشلة، أو مفشلة بفعل تهاونها مع رؤساء جامعات كانوا من اختيارها، وتقتل جامعات خاصة ناجحة ومطلوبة باعتبارها روافع اقتصادية وحيدة في المناطق التي تأسست فيها. وليس في هذا السلوك إلا الغباء او الخيانة بعينها.
ليس من الحكمة أن تعمل الحكومة كتاجر، وليس من الحكمة أن تستبد الحكومة برأيها لأن مشاركة الناس بالرأي يثري العقل. ومن العار أن تعمل الحكومة كمجموعة من العميان الضالة، تقود مجموعة من العميان الأبرياء…