شرّفني وزير التعليم العالي د. لبيب الخضرا، بالانضمام إلى وفد الجامعات الأردنية المشارك في المؤتمر الدولي لقيادات التعليم العالي، والذي انعقد في مونتريال بكندا خلال الأسبوع الأخير من شباط (فبراير) الماضي. وشاركت في المؤتمر وفود من معظم دول العالم، لكن الحضور العربي كان خافتاً بدرجة عالية! وربما يكمن السبب في الظن التقليدي بأن أصقاعَ كندا المتجمدة ليست مناسبة لأجساد اعتادت درجات الحرارة العالية. وكنت ممن تفاجأ بأن الحرارة المنخفضة، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى 18 درجة تحت الصفر، لم تمنع قادة العالم الأكاديمي، ورؤساء الجامعات ذات السمعة العالمية، من المشاركة في المؤتمر، ومناقشة آخر المستجدات والتحديات في حقول التعليم العالي.
كانت اللقاءات الجانبية، كما المؤتمر نفسه، فرصة ذهبية لتبادل الآراء ومناقشة المشاكل والتحديات التي تواجهه صُناع القرار، ثم التعرف على الخبرات التي لا تقدر بثمن. فقد التقى وفدنا الوطني مع رؤساء وممثلي جامعات من طوكيو وبكين وسيؤول وحتى الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية. وحزنت كثيراً لأن حضور أهل الضاد، باستثناء الأردن، كان منعدماً.
كنت قد زرتُ مونتريال وكيبيك؛ العاصمة الإقليمية، قبل خمسة عشر عاماً. ولم تكن لتلك الزيارة أي قيمة مضافة في حياتي، سواء على صعيد المعرفة الأكاديمية أو التعرف على أشياء غريبة في بلاد بعيدة. لكن هذه المرة كانت مختلفة بكل المقاييس؛ لأن كندا الحاضر تختلف عن كندا الماضي، وهي في الوقت الراهن بلاد الفرص الذهبية، وموئل المبدعين من كل أنحاء الدنيا. تنظر إلى وجوه الناس كي تتلمس فارقاً معيناً فلا تجد إلا وجهاً عالمياً؛ إذ هذا صيني، وذاك هندي، وثالث عربي. وفي برلمان مقاطعة أونتاريو، تجد الصينيين والهنود والإيرانيين. لقد أصبحت كندا ملاذاً لكل مبدع لم يمنحه وطنه فرصة التقدم والإبداع. وسمعت من عميدة الدراسات العليا في جامعة مكغيل (McGill University) أن الطلبة العرب بشكلٍ عام، والأردنيين بشكل خاص، مبدعون وقياديون، ولهم قيمة مضافة عالية في مجتمعاتهم المحلية. وقد أصبح منهم رؤساء جامعات رايرسون (Ryerson)، ويورك (York)، والغرب الكندي (Western Canada). كما منهم عمداء وأساتذة مبدعون في مجالاتهم العلمية، وبخاصةٍ العلوم والهندسة والطب.
كنت محظوظاً بلقاء عدد كبير من الأكاديميين والعلماء والمبدعين في مجالاتٍ عديدة. وأكثر ما أثار انتباهي تلك الملامح المريحة التي تميزهم جميعاً من دون استثناء؛ فقد كانوا يفيضون تواضعاً وتلهفاً للتعاون مع من هو أفقر منهم في مجالات الموارد والعلم والثراء المادي. وكان الحديث معهم مشجعاً على تناول موضوعاتٍ معقدة في العديد من حقول المعرفة. وما يميزهم بشكل لافت اعترافهم الصريح بأن كندا هي بلاد المهاجرين؛ فلم يكن من بينهم متعصب أو متحيز لفئة دون فئة. ومن هؤلاء كان وزير التعليم العالي والبحث العلمي البروفيسور رضا مريدي، الذي ينحدر من أصولٍ إيرانية. وكان قد قدِمَ إلى كندا كي يتعلم، فحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء. ومن خلال جده ومثابرته أصبح وزيراً في حكومة مقاطعة أونتاريو، وهي من أغنى وأقوى مقاطعات كندا؛ إذ تبلغ عائدات السياحة فيها ما يقرب من 30 مليار دولار!
لكن اللقاء الذي جمعني مع هاميلتون براون ربما كان من أغرب اللقاءات التي حظيت بها. فمن هو براون؟ وماذا يعمل؟
ينحدر براون من عائلة كندية، يرجع أصلها إلى مقاطعة اسكتلندا، في المملكة المتحدة. وقد هاجر جد العائلة، جورج براون، مع عائلته الصغيرة إلى كندا حوالي العام 1825. وأصبح سياسياً مخضرماً وصحفياً بارعاً في مقاطعة أونتاريو، حيث توفي في العام 1880. وكان يؤمن بأن التعليم هو ملاذ الفقراء والأغنياء. فالتعليم للفقراء سلاح الحصول على عيش كريم، ومنطلقٌ نحو مستقبل واعد. أما التعليم للأغنياء فهو ترفٌ لا بد منه كي يبقوا أغنياء، ويحافظوا على وجودهم من عاديات الزمن!
وكان براون ممن آمن بأقوال الحكيم كونفوشيوس، ومنها: “بع فراش بيتك لو اضطررت كي تعلم أبناءك”، وزاد عليها: “بع فراش بيتك لو اضطررت كي تعلم أبناءك، وتحميهم من استبداد الظلام بعقولهم وأرواحهم”.
وقد آمن هاميلتون براون برسالة جد جده حول التعليم للجميع. لكنه بدا لي وكأنه فيلسوفٌ بعيدٌ عن السياسة الواقعية (Realpolitik)، كما وصف نفسه. إذ قال بهذا الشأن: “أنا أؤمن بالسياسة النظرية، والتي تعمل على ترويض الناس ليكونوا مواطنين صالحين يحبون أوطانهم. وأكره السياسة الواقعية لأنها ضربٌ من الخداع الذي لايخلو من الكذب والتآمر، وتعلم الناس كي يكرهوا أوطانهم ويحقدوا عليها، وبخاصة إذا اختلطت وتحالفت مع إعلامٍ وضيع!”.
جلسنا في شرفة بيته الذي يقع في حي بعيد عن الصخب. وما زاد الجلسة هيبة هدوءه ووقاره؛ فقد كان ينقطُ حكمة وصدقاً وشفافية. وشخصيته جاذبة إلى حد كبير!
في بداية الجلسة طرحت عليه سؤالاً بشأن كيفية رفع الفاقة عن الفقراء. فقلت له: أعطني من خبرتك وجوانية وجدانك كيف تمكنت كندا من الإمساك بناصية التطور، واستطاعت صهر كل هذه الأجناس من البشر في بوتقة واحدة؛ فإني أرى أنكم قد سبقتم العالم الغربي برمته. والمفارقة الغريبة أن هناك نزعات قومية ودينية غريبة تصدر من هنا وهناك في أوروبا والولايات المتحدة، لكن كندا آثرت رمي كل هذه النزعات الشاذة وراء ظهرها، والمضي قدماً في برنامجها الإنساني–العالمي.
قال: يا ولدي؛ الجواب بين يديك! قلت: كيف؟ قال: ألم تقرأ سيرة نبيكم العظيم؟ قلت: بلا! فقال: سيرة نبيكم العظيم تتحدث ضمناً وصراحة عن النهوض بالمجتمعات. فقلت: المعذرة أيها الحكيم، لم أكن أعلم بأنك تقرأ سيرة الأنبياء وأقوالهم، وأنت كندي مسيحي! فقال: هذا ما جعل الناس يلجأون إليّ في تقريب وجهات النظر في مجتمعنا. ثم قال: نحن الكنديين متنورون إلى حد الترف، نقبل الآخر بلا تردد، ألم تسمع بأننا استقبلنا مهاجريكم بنشيد طلع البدر علينا؟ فقلت: ظننت أنها غير صحيحة، أو أنها كانت من قبيل الدعاية. قال: لا! هي صحيحة، وكنت ممن شارك في حفل استقبال أول فوجٍ منهم. قلت: باركك الرب.
ثم عدت إلى سؤالي: كيف تمكنت كندا من جذب كل هذه الأعراق والأجناس، وكيف استطاعت الرقي بهم؟ فقال: بالتعليم والتعليم فقط. ثم زاد على قوله قولاً آخر: “اشغل عقلك بالعلم والسكينة حتى لا ينشغل بملذات الحياة”. قلت: بالعلم نعم، لكن من أين تأتي السكينة ونحن نعيش في إقليمٍ ملتهب لا تطفئه كل ثلوج كندا؟!
قال: يا ولدي؛ كلماتك تعبر عن عجزك، وهي أسوأ حالة يصل إليها الإنسان في مشوار حياته. عجز الإنسان عن توظيف إرادته هو مرض يشل الدماغ والنفس والروح! فقلت: علمني مما فتح الله عليك.
شعرت بعدها بأنه تحول إلى شكل آخر من البشر، وبدا لي كأنه مخلوق سماوي بشفافيته وصدقه. وقد أخرج كفه اليمنى من جيبه، وقال أنظر هنا وركّز! أنظر إلى كفِ يدي اليمنى وأصابعي الخمسة العاملة عليه، وتذكر الكلمات التالية، فقد تغير وجه التاريخ بها وبمفعولها. وعندما تركتموها انحدرتم في أتون الهاوية! فالأصابع الخمس تمثل الصلوات الخمس التي فرضت عليكم.
فقلت في نفسي: هذا الإنسان الغريب يعطيني تمثيلاً غريباً في ديني.
وبدأ حديثه كما يلي:
الإصبع الأصغر (الخنصر) هو صلاة الفجر، ويمثلُ الصدق باعتباره مُدخلاً رئيساً في آلة التطور والتقدم والرقي. فقد عُرف نبيكم العظيم بالصدق والأمانة. ومن هذه القاعدة أنطلق. فصاحب المشروع لا بد أن يكون صادقاً في توجهه، صادقاً في نواياه، صادقاً في الظاهر والباطن. وكل ذلك يعني أن صاحب الهدف لا بد أن يكون مؤمناً بهدفه، ويعمل من أجل تحقيقه بكل إخلاص وتفان وأمانة.
أما الإصبع الذي يليه إلى اليسار (البنصر)، فهو صلاة الظهر، ويمثل العلم والمعرفة. وكي يغدو الهدف ممكناً لا بد لصاحب المشروع أن يعلمَ بهدفه علماً عالياً، ليس فقط بظاهر الهدف (التنمية في هذه الحالة)، بل بجوانية وباطن الهدف، وتفاصيله وتبعاته، ونتائجه الممكنة والمحتملة.
الإصبع الأوسط هو صلاة العصر، ويمثل الإرادة، وقد تكون أثقل الأعمال. فثلاثة أرباع البشر يفتقرون للإرادة. ولا شيء يتحقق من غير إرادة حقيقية، وتصميم على النجاح، فهما الوقود المُحرك للفعل الإنساني، آخذين بعين الاعتبار بدهية لا بد من ذكرها هنا، وهي أن الأهداف الصغرى الهامشية تحتاج لإرادة قليلة وهامشية، وقليلاً من الجهد. أما الأهداف العظمى والآمال العريضة، فتحتاج لإرادة عظيمة، تتناسب مع عظمتها.
إصبع السبابة هو صلاة المغرب، ويمثل الفعل على أرض الواقع. والفعل هو الحركة والضبط والانفعال والتصحيح، ومجابهة التحدي بالتحدي والسالب بالموجب الأقوى. وكلما زادت التحديات المعيقة لتحقيق المشروع التنموي، لا بد أن تزداد معها التحديات التي تذلل الصعاب وتهوّن العسير. وكي تقلع في الفضاء، لا بد أن توظف جهداً وطاقة أعظم من الجاذبية. والجاذبية هنا هي الكسل والتقاعس!
وأخيراً، الإصبع الإبهام، وهو صلاة العشاء، ويمثل الصبر.
عند هذه اللحظة، سكت هاميلتون لأكثر من عشرين ثانية، ثم قال: الهدف العظيم ليس مشواراً سهلاً، وليست التنمية والرفعة نزهة استجمام، وليس للرقي طريق معبدة بالورود والأزهار. إنها طريق محفوفة بالألم والانتكاسات، ومليئة بالصعاب والتحديات. وإذا لم يواجه صاحب المشروع العظيم والهدف النبيل الصعاب والتحديات، فإن مشروعه لن يلبث طويلاً، لأنه لن يحرص على بقائه واستدامته. ولا تنسى، يا ولدي، أن فسيولوجيا التنمية (Physiology of Development) مصطلح غريب لا يلجأ إلى توظيفه إلا الراسخون في العلم، ومفاده أن اليد لا تعمل كما ينبغي لها أن تعمل إذا انقطع أحد الأصابع؛ إذ لـ”الصدقِ” وزنٌ يُكافئ 35 % من محصلة القوى المتعاضدة (Synergic Force)، ولـ”العلم” وزنٌ يكافئ 40 % أخرى، ولـ”الإرادة” وزنٌ يكافئ 50 %، ولـ”الفعل” وزنٌ يكافئ 80 %، وأخيراً لـ”الصبر” وزنٌ يكافئ 200 % من تلك القوى المتعاضدة.
صمت قليلاً وقال: أعرف في جوانية نفسي أنك استغربت حول مجموع القوى، فهي أكثر من 100 %. قلت: نعم. قال: في المشاريع العظيمة لا ينفع علم الحساب التقليدي، ولا تنفع الإحصاءات التي اعتدنا عليها في العالم الأكاديمي المادي. هناك رياضيات مقدسة (Divine Mathematics)، حيث يكون أثر الصدق والإرادة وبقية القوى أكثر بآلاف المرات. والأرقام التي أتيت عليها هي أرقام قد تتحقق عند بداية المشروع، ولكن في مراحلٍ متقدمة سيدخل أثر ما نسميه في الاقتصاد أثر المُضاعف (Multiplier Effect)، وهو ما يجعل أثر القوى يؤول إلى ما لانهاية!
يا ولدي؛ انصت لي بقلبك ووجدانك. نبيكم العظيم بنى أعظم المؤسسات التي عرفها البشر. إن وسط كف يدي المربوط بالأعصاب والعضلات التي لا نراها، يمثل المؤسسات (Institutions)، والتي من دونها لن تعمل القوى المتعاضدة مهما كانت الواحدة منها قوية. والمؤسسات التي أتى بها نبيكم العظيم هي التشريعات والقوانين الرائعة، والعادات الحميدة. ومن دونها لا تحلم أن يتحقق أي شيء إيجابي على أرض الواقع. بل سيتحقق المزيد من الفوضى والتبذير والنهب. وهو ما خبرته أوروبا قبل أن تعترف بدور المؤسسات الشكلية التي تمثل التشريعات الراقية، والمؤسسات اللاشكلية التي تمثل العادات والتقاليد والأعراف الحميدة.
وكانت آخر كلماته: أرجو منك الانصراف، لأن لدي موعدا محددا مسبقا.