من الوظائف الأساسية للعلم، وبشكلٍ عام، أن يقومَ المختصون من خلاله بتصنيف الأشياء والظواهر حسب وقوعها ودراسة أثرها في الطبيعة أو في الواقع المادي للبشر المتأثرين بالظواهر محل الدراسة، ثم كيفية استغلالها واستعمالها في خدمة الإنسان. ويعتبر التصنيف والتشخيص من أدوات العلم والمعرفة. فبواسطة هذه الأدوات يستطيعُ الإنسانُ أن يُشخّصَ ويُعرَّف ويُصنِف الأشياء. وإذا ما جاز لنا استعمال أداتي التشخيص والتصنيف في وصف أي مجتمع إنساني، فإن بإمكاننا الوصول من خلالهما إلى مجموعةٍ من البدهيات والنظريات التي قد تُصنّف تحت عنوان السهل الممتنع، أو إلى مجموعةٍ من الحقائق العلمية الدامغة.
المجتمعات البشرية ظاهرة طبيعية تناولها العلماء والباحثون بالتفاصيل والتحليلات المُعمقة. وكان من أشهر هؤلاء العلماء والدارسين: أميل دوكهايم وماكس ويبر. وقد نظرَ هذان العالمان إلى المجتمعات البشرية باعتبارها ظاهرة طبيعية قابلة للدراسة والتحليل، نستطيع إذا فهمناها أن نستنبط النتائج واختبار الفرضيات، وتأطيرها في نظريات علمية تجعلنا قادرين على ممارسة القياس والتنبؤ.
يمكننا تصنيف المجتمعات البشرية من حيث اهتمام أفرادها بالشأن العام. وهذه الظاهرة مركبة، تتكون من بعدين، أولهما المجتمع ذاته، وثانيهما سلوك الأفراد وتوجهاتهم حول ظاهرة الشأن العام (public affairs or public interest or public matter). وقد أجمع العلماء والدارسون بأن هذه الظاهرة هي ظاهرة كونية (universal) بطبيعتها، من حيث تشكلها وارتقاءها في جميع المجتمعات البشرية من غير استثناء. وقد تتباين ردود فعل الأفراد حول الشأن العام باختلاف الثقافات وتعددها وتمايزها عن بعضها بعضاً. لكن الجوامع بين المجتمعات أكثر من القواسم، والعوامل الموحدة لها في هذا الشأن أكثر من العوامل المُفرقة. فالبشرُ يبقوا بشراً مهما اختلفت وتعددت ثقافاتهم ولغاتهم وأعراقهم وألوانهم.
تصنيف أفراد المجتمع حول فهمهم للشأن العام:
كي نتمكن من فهم المجتمعات وفهم سلوك أفرادها حول الشأن العام، يمكننا النظر إلى أفراد المجتمع باعتبارهم مجموعة كبيرة من اللاعبين النشطين في حقلٍ اجتماعي واحد، تتباين ردود أفعالهم حول الكعكة الاقتصادية (أي ما ينتجه المجتمع) وحصة كل فرد أو مجموعة من الكعكة. وقد تتداخل ردود الأفعال بشكل آني، لكن سمة الإستقرار في توجهاتهم وسلوكهم راسخة في الأمد الطويل. وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه العلماء، وبخاصة علماء الاقتصاد والاجتماع والإحصاء.
أولاً:
الشأن العام بالنسبة إلى مجموعةٍ مُحددة من المجتمع يعني العطايا والمزايا التي تكسبها هذه المجموعة من الدولة بمفهومها العام. وليس أي شيء خارج هذا الإطار. وهذه الفئة مرتبطة بالمصالح فقط. ومن صفاتها التقلب وتبديل المواقف من أجل المصالح. وأبناء هذه المجموعة هم جنود الدولة العميقة بمعناها الوجودي وليس المبدأي. ويُقصد بذلك أنهم مع مصالحهم أنى كان الراعي لها حتى ولو كان عدواً خارجياً.
يندرجُ تحت هذا التصنيف عددٌ من رجال الأعمال وبعض أبناء العشائر وعددٌ من أبناء الطبقة الوسطى، وعددٌ من موظفي القطاع العام. ويشمل ذلك عدداً من كتاب الصحف الورقية وبعض كتاب الصحف الإليكترونية، وعلى وجه الخصوص تلك الفئة المرتبطة بمؤسسات رسمية معينة تقوم على رعايتهم وتمويل كتاباتهم الهادفة إلى زعزعة الثقة العامة وصنع الرأي العام الزائف. ما يعني أنهم يقفوا مع من يدفع أكثر.
يمكنني لأغراض تسهيل التحليل أن أطلق على هذه الفئة المصطلح الاقتصادي الشهير الركاب بالمجان (free riders). وهم الذين يخدمون أصحاب القوة التفاوضية بالمجتمع بمجرد السكوت وعدم التمرد عليهم لقاء ما يحصلون عليه من مزايا وعطايا.
ثانياً:
الشأن العام بالنسبة إلى مجموعةٍ أخرى يعني تأمين لقمة العيش من الدولة فقط، وكيفما اتُفق إلى حدٍ ما.
هذه الفئة هي الأقلُ حظاً في المجتمع. وهي مسحوقة وساحقة. ويُقصد بذلك أنها الطبقة التي تشكلُ مستودعاً استراتيجياً كبيراً من العاملين في الوظائف الدنيا في أجهزة السلطة، ومسحوقة اقتصادياً واجتماعياً وتُستخدم في سحق المسحوقين من الفئات الاجتماعية التي لديها قابلية التمرد على النظام. وفي المجتمعات الفقيرة تشكل هذه الفئة ما لا يقل عن ( 95% ) من حجم المجتمع. ولا يزيد دخل الفرد فيها عن ( 300 ) دولار شهرياً (حسب الإحصائيات الدولية المعلنة). وعلى سبيل المقارنة تُشكل هذه المجموعة ما لا يقل عن (90%) من المجتمع الأمريكي. ومنها تستمد الآلة الاقتصادية والعسكرية جبروتها. فمنها عمال الياقات الزرقاء والجنود المقاتلون، وما شابه ذلك من الأرواح الرخيصة.
وفي سبيل فهم وجود مثل هذه الفئة، دعنا نستخدم مصطلح استخدمته في أبحاث أخرى في شرح مدرسة الاقتصاد المؤسسي، وهذا المصطلح هو النحل العامل (working bees). حيث يكون أفراد هذه الفئة معنيون بتأمين سيرورة الآلة الاقتصادية وسهولة عملها، وهم الجنود المُناط بهم إنفاذ القانون الذي يصنعه أصحاب القوة التفاوضية لمصالحهم.
ثالثاً:
الشأن العام بالنسبة لفئة ثالثة يعني لا شيء. لأن أبناء هذه الفئة قائمون بذاتهم، ولا يؤمنون بوجود الدولة أصلاً، أو أن وجودها من عدمه سيان بالنسبة لهم. ولا يُشكلُ هؤلاء إلا نسبة بسيطة من مجموع المجتمع، أنى كان. وقد اطلقت عليهم اسم خسارة الوزن الميت (dead weight loss). وهو مصطلح كثير الإستعمال في الاقتصاد الجزئي.
رابعاً:
الشأن العام بالنسبة لفئة مترفة من المجتمع يعني السلطة والإستبداد والاستئثار بكل شيء، إلا بالقدر الكافي لإسكات أبناء الفئة الثانية. وأفراد هذه الفئة هم أصحاب القوى التفاوضية (bargaining power)، التي تقوم بصياغة وترسيخ مؤسسات الدولة الشكلية واللاشكلية. أي أنهم يصنعون القوانين والعادات والأعراف ويجيرونها في خدمة مصالحهم.
تُشكل هذه الفئة نسبة ضئيلة جداً، من المجتمع الكلي. وأفرادها يَعتبرون أنفسهم حماة للدولة وأن الدولة لم تقم إلا بهم وتنهار بدونهم. وهم يحلبون الدولة ويستعملون مواردها كما تُحلبُ البقرة. وقد استأثروا بكل ما يمكن أن يضعوا أيديهم عليه نتيجة لعوامل تاريخية وسياسية استثنائية. وحسب واقع الحال ترتبط هذه الفئة إذا كانت موجودة في دولة فقيرة أو دولة تسلطية مع قوى خارجية ارتباطاً عضوياً. فإذا ضعفت القوى الخارجية ضعفت هذه الفئة. أما إذا كانت الدولة غنية فإن ارتباط هذه الفئة يكون مع المجمعات الصناعية والعسكرية والنفطية، والشركات العابرة للحدود الوطنية. ومثال على هذه المجموعة عائلة روكفيلير وبوش وتشيني في الولايات المتحدة. وعائلات البراهميين العليا في الهند. وعائلات الكميرون ورودس التي كانت تحكم الجنوب الأفريقي، وامتدت طموحاتها لتحكم أفريقيا بأكملها قبل وبعد حرب البوير في القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين الماضي.
خامساً:
الشأن العام بالنسبة للفئة الأخيرة يعني إصلاح ما يُفسده الناس. ويُشكل عددهم نسبة ضئيلة جداً من الأفراد، وهي لا تتجاوز إثنين بالألف في أحسن الأحوال.
استنتج علماء الإجتماع بأن هذه الفئة تؤدي وظيفة طبيعية تلقائية الوجود. ولا يمكن أن تبقى المجتمعات مهما كانت بدونها. وقد استدل على وجودها التلقائي من الناحية التاريخية بالرسالات االسماوية و وجود الفلاسفة والمصلحين، حتى في أعتى أنواع الحكم، منذ أيام نوح عليه السلام والفيضان العظيم، وقوم عاد وثمود وأصحاب الأخدود، والفراعنة والرومان، وحتى يومنا هذا.
تتوازن التأثيرات التي تمتلكها كل فئة، وتتداخل الوظائف والمؤثرات. وعندما يشعر أصحاب القوى التفاوضية بأن مصالحهم مهددة، يلجأ منتسبوها، أفراداً وجماعات، إلى تكثيف قواهم رغم أنهم يكرهون بعضهم بعضاً. ويشددون على استخدام فئة الركاب بالمجان والنحل العامل في محاربة الإصلاح. وقد يلجأوا إلى القتل والتنكيل بفئة الإصلاحيين. وفي خضم ذلك تتسلل الثورة، كما وصفها فيكتور هوغو. فالثورة بأشكالها المختلفة، بيضاء أو حمراء، بالنسبة له هي كجذور الشجرة التي تمتد دون أن يشعر بها أحد، وعندما تحدث تكون كالموت الزؤام الذي لا يمكن مقاومته أو دفعه، ولا تستقر إلا بإحداث التغيير المنشود. وفي هذا الإطار يُشدد فلاسفة الإصلاح على أن الدول التي تخلو من مصلحين سرعان ما تنهار تحت وطأة التخريب الذي يحدث من تنافر قوى المجتمع، وبخاصة أن للإستبداد وظيفة يؤديها داخل الدول، وهو التمهيد لتدمير ذاته من خلال ثورة تخلخل الموازين التي ظن المستبدون أنفسهم أنها مستقرة.