في الوقت الذي تصر به حكوماتنا ، وتقريبا الغالبية العظمى من حكومات العالم الثالث التي ترزح اقتصاداتها تحت وطأة العجز والمديونية ، على الاقتراض الخارجي، الذي يتطلب قطعا المرور في نفق وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المظلم ، تؤكد التجارب المريرة والحقائق التاريخية المثبته ان هاتين المؤسستين الدوليتين لم تدخلا دولة إلا وتسببتا في تفكيك بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعمقتا ازمتها المالية والنقدية وكرستا التبعية والارتهان بابشع صورهما ،تبعية تطبق على مصائر الدول وتتحكم سياسيا واقتصاديا في حاضرها ومستقبلها .
الدكتور عبدالرزاق بني هاني وهو الاكاديمي الحَاذِق والباحث الاقتصادي العميق استطاع في مؤلفه الجديد “نظرية الإنحباس وتنمية اللاتنمية” الصادر عن جامعة جرش ، ان يضع الاطار النظري العلمي لهذه الخلاصات ، لا بل استطاع ان يثبتها بالورقة والقلم ،بالبراهين الرياضية والامثلة المستوحاة من الواقع، والشهادات الصادرة عن موظفين سابقين في تلك المؤسسات الدولية، بالاضافة الى استحضاره للظروف الذاتية والموضوعية التي رافقت تاريخيا نشأة هاتين المؤسستين الدوليتين .
الدكتور بني هاني يريدنا ان نفتح زاوية الرؤية جيدا لندرك حجم المخطط ، يريدنا ان نتنبه للمؤامرة التي تستهدف روحنا الوطنية والقومية و المعنوية وخصوصيتنا الحضارية والتاريخية ومنظومتنا الثقافية والفكرية والمعرفية .
بني هاني تحدث عن نظرية الانحباس ،انحباس الدول الفقيرة في اطار من التبعية المطلقة لا ينبغي ان تتحرك الا في داخله، فعلى الدول الفقيرة المغلوب على امر شعوبها ان تعيش – على حد تعبيره – حالة من التعايش و التصالح مع فكرة ان الفقر هو قدر لا مفر منه ، عليها ان تستمرء الفقر والتبعية للاجنبي ،عليها ان لا تحاول الانعتاق من هذا الوهم الكبير .
في مؤلف الدكتور بني هاني الهام تحدث ايضا عن مفهوم تنمية اللاتنمية ، وكيف ان دولنا تعيش حالة من انتفاء الفعل او بالاحرى الانتهاء بنقيضه ، فمفهوم التنمية لديها يتمحور حول خلق واستدامة (اقتصاد الريع) الذي لا تجني ولا تحقق هذه الدول منه الا مزيدا من وهم التنمية والتبعية ،كونه يعبر في حقيقة الامر عن التراجع والارتهان الى علاقات ريعية هشة ، غير قابلة للاستمرار ولا تعمل على احداث تنمية بشرية او اقتصادية باي شكل من الاشكال .
الدكتور بني هاني تحدث في كتابه القيم باسهاب عن التبعية المطلقة ،وكيف ان الغرب حرص منذ البداية على تكريسها وتجذيرها في دون المنطقة العربية ،وقام بذلك عبر تبنيه لنوعين خطيرين مع الاحتكار : الاول احتكار الشراء (شراء المواد الاولية النفط والغاز) ، والثاني احتكار بيع الغذاء والسلع المدنية والعسكرية ). وبذلك يحكِمون الهيمنة على هذه الدول ،ولا يتركون لها فرصة للتحلل من هذه العلاقة المركنتلية القائمة على الارتهان الكامل سياسيا واقتصاديا وامنيا لدول المركز (دول الغرب الغنية). وفي هذا السياق لم ينس الكاتب ان الدول الغربية تمكنت ومن خلال احتكار اربع مجالات اساسية من السيطرة على العالم ، وتسييره بالشكل الذي يُعظم مصالحها الاقتصادية والسياسية ، وهذه الاحتكارات هي:المجال السياسي الدولي،المجال الاقتصادي الدولي ،المجال التقني التكنولوجي،والمجال الاعلامي المعلوماتي .
اذا، على الدول الطرفية – والحالة هذه – الاندماج القسري في النظام الاقتصادي العالمي وهو نظام راسمالي بامتياز يعمل بشكل مستمر على منع دول العالم الثالث من تطوير اقتصادها الى الحد الذي ينافس المركز باي شكل من الاشكال.
بني هاني قال : ان مخططي التبعية وضعوا خارطة طريق معقدة احتوت ادق التفاصيل تبدأ بماهية نظام الحكم في الدول الطرفية الفقيرة ،وتنتهي عند ادنى الاشياء التي لا تخطر على بال البشر العاديين الذين يفكرون ببراءة الانسان ، ومن جملة ما قرره المخططون كان ايصال حياة الطرف الى درجة عالية من الهشاشة المعنوية والمادية وبخاصة ما تعلق منها بامنه الغذائي ومصادر المياه والطاقة وشبكة المواصلات وشبكة التعليم العام والتعليم العالي وقد باتت نتائج هذه الخطة جلية واضحة في الدول العربية .
ان الدول الطرفية – ونقصد هنا الدول التابعة للغرب،التي تدور في فلكه ،حول المركز – ، كما بين بني هاني – لم تقع في براثن المديونية فحسب بل صُممت حالتها الاقتصادية كي تمر في مسار معين سلفا ، وهو على النحو الاتي، وحسب الترتيب :
١- القضاء على الادخارات الوطنية باية طريقة متاحة
٢- تشجيع الاستهلاك على نحو يقوي ويعزز الادخارات المتناقضة
٣- اغراء الدول بالاقتراض ، ما يؤدي بالتالي الى القضاء على اي امل بالنهوض والتحرر .
الدكتور بني هاني تطرق الى محور صادم حيث تحدث عن التعاون بين طبقة الاغنياء في كل دولة (امة) مع الطبقة المقابلة لها من الاغنياء في الامم الاخرى ، ويعود السبب في التعاون – كما جاء في المؤلف الهام – الى رغبة هذه الطبقة في كل دولة الى ادامة الثراء والغنى والسيادة اي ان الاغنياء والاسياد يدافعون عن بعضهم بغض النظر عن مكان وجودهم ودياناتهم واعراقهم .
وتحدث الكاتب عن وجود وكالات تابعة لحكومات دول عظمى ومنها الولايات المتحدة الامريكية متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بارقى الاشكال ثم تسوقه على نطاق واسع وعادة ما يتم ذلك بواسطة ما يسمى حشد الجهل لان الجهل ذاته هو قوة فاعلة على ارض الواقع يتشكل من مركبات ثلاثة:
الاول : جهل اجتماعي: وهو جهل المجتمع بالمستنقع الفكري الهابط الذي ينغمس ويعيش به طواعية .
الثاني : جهل سياسي: وهو جهل النخبة السياسية او تغاضيها عن الخداع الذي تمارسه الدول الغربية.
والثالث : جهل علمي: وهو الجهل الحقيقي بالعلوم والتقانة المؤدية لنهضة علمية وصناعية .
وتحدث بني هاني عن ما اسماه بنظرية الاقفال التي اعتبرها من اهم منجزات التبعية السياسية والتي تندرج تحتها ممارسة توريث المناصب العامة والمواقع السياسية وتدويرها بين الابناء والاحفاد .
واقتبس بني هاني من كتاب المتخصص بشؤون القروض التنموية الموظف السابق في البنك الدولي جون بيكينز “اعترافات مدمر (قاتل) اقتصادي” ، ما يؤكد مقولات بني هاني وخلاصاته ، ومن هذه الاقتباسات من كتاب بيكينز: (الويالات المتحدة الامريكية مُنشغلة بتعزيز شكل حديث من العبودية ،بواسطة استخدام البنك الدولي ومؤسسات دولية اخرى ، بما تعرضه من قروض ضخمة الى الدول النامية ،لاستخدامها في مشروعات البناء وانتاج النفط . وعلى ما يبدو بالظاهر ان هذه القروض مقدمة في اطار من السخاء ، لكنها قروض لا تُعطى الا الى دول تقبل بتوظيف شركات الانشاءات الامريكية ، وهذه الممارسة تجعل عددا قليلا من الناس اغنياء).
اضافة الى ذلك ، نرى با القصد من الحجم الكبير للقروض يكمن في زيادة العبء على الدول المقترضة ، وزيادة الضغط عليها من اجل ضمان وقوفها الى جانب المصالح السياسية للولايات المتحدة “.
وفي جزء من كتابه يقدم بيركينز نصيحه لكل من يعنيه الامر ، ونظن اننا في الاردن معنيون تماما بهذه النصيحة ،التي مفادها : لا تقترض مهما بلغ بك الامر، اذا اردت ان تكون حرا ، فامبراطورية راس المال الحديثة تستعبد بشرا اكثر مما استعبدته الامبراطورية الرومانية ، وكل قوى الاستعمار من قبل “.
للمتابعة جميع مقالات عطوفة الاستاذ الدكتور عبدالرزاق بني هاني: http://www.jpu.edu.jo/newsletter/?tag=عبدالرزاق-بني-هاني
باسل عكور صحيفة Jo24